إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 7 أغسطس 2013

8- هجو ود بابكر





8ـ هجو ود بابكر

-         الســــلام علـــــــيكم !!...
قلت ذلك وقد فخّمت صوتي وكبّرته وجعلته يخرج من حنجرتي غليظاً أجشّاً حتي لا يستطيع أحد منهم أن يميزني من الصوت ....! إلتفت الجلوس ثلاثتهم نحو مصدر الصوت وقطعوا ما كان يدوربينهم من حديث وونسة :
-         وعليكم السلام حبابك أخونا .... اتفضل!
كان ردّاً مرحباً إلا أنهم بعد لم يتبينوا من الذي يقف أمامهم هذا وقد حياهم بتحية الإسلام المباركة وأخذوا يتهامسون فيما بينهم ( الزول ده منو يا ربي...؟ شكلو أصلو ما غريب علينا !) ... ثم فجأة صاح أحدهم:
-   ياخي أصلو ما معقولة ...! العـــوض!!...... علي الحرام ماعرفتك في االاوال.... خبارك يازول الدور ده جيتنا مشنط بالافرنجي؟
ثم احتضنني وكما يقول أهلي (سالمني سلام معرفة) لأنه من قريتي وتربطنا ( لَحَمة) ليست بالبعيدة ! وجدد الآخران – اللذان يبدوان غريبان وليس حتى من أبناء منطقتنا- سلامهما ورحبا بي.
-         كيف حالك العوض و حمد الله على السلامة ... كيف ناس الحلة انشاء الله ما فتهم بي عوجة !
-    الحمد لله ... ناس الحلة كلهم تمام تب ما فيهم عوجة ويسلمو عليك .... كيف انت يازول مع البلد دي انشالله نفعت معاك ؟
-         أقولك النصيحة حرّم الحباية ما فيها لكن غايتو اخير من عطالة الحلة!
-         احمد الله ياهجو اخوي ... انت هسع بي حالتك دي أحسن من ناس كتيرين...!
-         والله الحمد لله لكن ذي ما بقول اهلنا القُحَّة ولا صمَّة الخشُم!
هجو ود بابكر إذا أردت أن أحكي لك عنه ولو القليل , فلن أستطيع لأن قصته طويلة وربما شائكة , وكل إنسان بالطبع إذا وضعته تحت المجهر وبحثت عن خباياه  وفتشت في حياته الخاصة ,حتماً ستجد له ليس قصة واحدة بل قصص وحكايا! ... أما عن صاحبنا هذا قسأكتفي بأن أخبرك أنه كان يلقب بـ ( حرامي العِتّان) إذا كنت قارئ من الطبقة ( البلوتاريا) أو ما حولها فأنا متأكد بأنك بمجرد قرائتك لذلك العنوان تكون قد فهمت كل القصة من أولها إلى نهايتها دون أن تحوِّجني إلى سرد التفاصيل المملة!, لأنك بلا أدنى شك قد عايشت مثل تلك المواقف وعانيت الكثير من أمثال تلك المقالب , وليس من رأى كمن سمع, أما إذا كنت من القراء الذين لم يسمعوا بمثل تلك المصطلحات الغريبة , فهذه إضافة جديدة إلى رصيدك اللغوي الدارجي. ومهما يكن الأمر فدعني أكشف لك النور عن بعض الجوانب المظلمة لهذه الشخصية الغريبة , ولأقدم لك بعض المقتطفات المضحكة و المؤلمة في ذات الوقت وفي أثناء كل ذلك كان البطل صاحبنا والضحايا بعض مواشي الحلّة!.
فقد اتفق أنه كان بجوار قرية -  لاتبعد كثيراً عن قريتنا- مجمع من ( الكشاكيش) وبيوت القش يقال له (كَمْبُو 13) يقصده  مرتادي الخمور البلدية من (العرقي) والمرِيسة بأنواعها , وهو منطقة موبوءة تحدث فيها الكثير من أنواع الإجرام بدأً من المشاجرات بالأيدي و(العكاكيز) إلى درجة الطعن بالسلاح الأبيض والقتل! أما الجرائم التي لا يستطيع أن يرصدها أحد من العامة أو لا يمكن أن تصل  إلى مسامعهم وقائعها وأخبارها من الجرائم الخفية لا سيما الأخلاقية – فهذه لا يمكن حصرها , وربما كانت تحتسب من الأمور العادية التي لا غضاضة فيها ولا يعر لها إنتباه, وهجو ود بابكر هذا كان من المبتلين بتلك القاذورات , خصوصاً أم الكبائر, إلا أن ضيق ذات اليد كثيراً ما حال بينه وبين ملذاته القذرة , لكنه لم يكن يستسلم  لقهر الفقر, بل لا يتردد في أن يتصرف في ممتلكات الغير  في سبيل الحصول على (البقنية)  - فصاحبنا كان زول مريسة ساي – حتى لو كانت تلك الممتلكات تخص أقرب أو أغرب الناس إليه, وهذا هو حال أغلب شاربي الخمر خصوصاً المدمنين!.... في أحايين معينة و معروفة من العام تكاد كل القرية تعاني من الفلس وشظف العيش , والناس يسكتون الجوع بالدَّيْن , ويعالجون المرض بالدين وكل شيء مهم هناك لايمكن الحصول عليه أو الخلوص إليه إلا بالدين!.... وصاحبنا هذا مع فقره وبؤسه يخرج من القرية بعد أن يصلي المغرب , ثم يعود في حوالى التاسعة مساء بالتوقيت القديم  وهو (طاشم) و(يتَّرتَع) في مشيه ويحمل في إحدى يديه جركانة أُم رطلين ملأى بالمريسة , وكان هذا الأمر يغضب ود بلّة  الذي هو من ندمائه في الخمر إلا أنه كان يتناولها فقط عندما تكون أموره المالية جيّدة :
-   غايتو انت يا هجو ودبابكر زول عجيب خلاص ...!  الناس ما لاقية تاكل في قدّوما ... انت جاي وازِنا  وكمان معاها جركانة ام رطلين...؟! حرّم انت زول صعب خلاص...!
كان صاحبنا حاذقاً في سرقة الأغنام , ويتخيّر منها ( العَنْبَلُوقَات) و(العِتَّان) السمينة.. والمدهش في الأمر أنه لم يحدث أن قبض عليه وهو متلبس بالسرقة , بل لم يبرز منه حتى ما يثير الشكوك حوله لا من قريب ولا من بعيد, لأنه كان يتبع  في تنفيذ السرقة أسلوباً دقيقاً ذكياً, مدعّماً بالحيطة والحذر , فلا يدع مجالاً للشكوك  ولا ثغرة للإتهام !. فينتهي الأمر إلى أن يصبح أحدهم  فيجد أحد (عِتَّاَنه) السمان قد اختفى من الزريبة, فيبحث عنه في كل بيوت القرية  ويسأل عنه كل الناس ولكن دون جدوى لأنه في الواقع قد اختفى إلى الأبد ...فهذه مأساة حاجة بتول بت الاعيسر :
-   أجي يا اخواني العتود ده أنا اشتريتو أمس القريبة دي من سوق المدينة .... دفعت فوقو دم قلبي ... عاوزة أكرّم بيهو لـي أختي  جات من البلد , قدُر ما فتشت ليهو ما لقيتو  تقول الواطة بلعتو!... الحلة دي بقت فيها  ناس إيدُن عفْنَة!.. والسرق عتودي ده شدّيتو في الشيخ التوم ود بانقا! .... وانشا الله يخش عليهو بالساحق والماحق!.
وهنا يغضب الطيب ود حاج الطاهر الذي كان يلقب بـ ( أنصاري السنة)
-         يا حاجة اتقي الله ...! كلامك ده شرك عديل! التوم ود بانقا البتقوليهو ده لا بضر ولا بصلح....
لكن العجب ود العبيد يهيج ويصيح به:
-   انت زول وهابي منكر ما بتآمن بالشيوخ! احسن لك تلم لسانك ولّى قسم  الا عكازي ده فوق راسك المافوقو مخ ده...
فضحك الطيب ساخراً
-         سبحان الله...! عليك الله راس منو فينا الما فوقو مُخْ... والله ما بتخوفني بي عكازك ده!
واحتد النقاش وكادت أن تنشب مشكلة كبيرة لولا تدخل بعض العقلاء الذين فضوا العراك الذي نشب بين الإثنين!.
وهذا حاج عشم الله يتحسر:
-   والله كان عتوداً سمح خلاص!.... كان دار اوقفوا تيس في المراح اطلِّع مِنُّو تَرَبْ... إلا لكن يد الحرام لمّت فيهو... الحلة دي بقت فيها زول يدُّو وسخانة .... الله لا كسَّبو!
  وهكذا كانت الشكاوي كثيرة , إلا أن ظاهرة إختفاء العِتّان ما زالت مستمرة, فلا يكاد يمر يومان أو ثلاثة إلا ويختفي (عَمْبَلوق) من أحدهم دون أن يعلم السر من وراء إختفائه وغيابه الأبدي, ولم تنتهي هذه الظاهرة إلا بعد أن وقع السارق طريح الفراش إثر داء عضال أصاب بطنه , وقد أقام عدة أسابيع بمستشفى مدني دون جدوى , حوِّل بعدها إاى مستشفى الخرطوم  الذي مكث فيه عدة أشهر تماثل بعدها للشفاء, لكنه بعد تخريجه من عنبر الباطنية رفض العودة إلى القرية .... وكانت (الطَفْشَة الياها) وصار لايزور القرية إلا في المآتم والمناسبات الهامة. فدعوات الناس الغاضبة والمتظلمة دائماً ما تصيب ! خصوصاً أؤلئك الغلابى  والمقهورين الذين يعانون المرارات في تدبير معاشهم!. ومن حينها  صار يعمل في أم درمان ويتكسب بالحلال وتاب توبة  نصوحاً من الخمر ومن تاب تاب الله عليه !. ولم يستطع أحد إكتشاف أنه هو شخصياً حرامي العِتّان الغامض إلا عن طريق الصدفة , بعد أن فضحته (ست المريسة ) التي كان يتناول عندها الخمر , وكشفت عن كل أوراقه وذلك بعد فترة زمنية طويلة من غيابه من الحلة , وبعد أن يئست تماماً من كون عودته إليها مجدداً كزبون!. ولسوء حظه كان من ضمن الأشخاص الذين كشفت أمامهم  تلك الملفات السرية – التي تخصه- نديده  ود بلّة وهو رجل كما يقال (الآبري ما بِتْبلّة في خَشْمُو) فلم يكد يصدق أن وجد مثل ذلك الشمار (الحار) المثير! فقام بنشره وتوزيعه في جميع أطراف الحلة و(فرقانها) فانتشر الخبر بسرعة البرق والناس بين مكذب ومصدق وبين محتار مندهش أن يكون هجو هو صاحب تلك التهمة  المشينة التي لا تكاد تشبهه ولاتشبه أسرته ! ... لكنهم في النهاية يستسلمون متأسين بالمثل الشهير ( ورا السواهي دواهي!).



اليكم اعزائي القراء هذا الرابط الهام:-

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق