إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 6 مارس 2011

12- صباحية في ام بدة



12ـ صباحية في أمبدة



    عندما استيقظت كانت الدنيا مشرقة بضوء الشمس و الساعة تقارب التاسعة صباحاً .. جعلت أنظر حولى و أنا لم أزل بعد مستلقياً على على العنقريب، كانت الغرفة خالية، و رأيت الحاج راقداً على عنقريبه واضعاً إحدى رجليه فوق الأخرى (خالِف كُراعو) وهو يسبِّح بصوت مسموع، وإحدى سبابتيه تسحب بقوة و سرعة و تتابع حبيبات مسبحته الطويلة والمعلقة بين إبهامه و الوسطى ... لا اله إلا الله .. سبحان الله...  ماشاء الله كان منظراً بديعاً ... ألهمنى مزاجاً روحانياً بديعاً و نفحنى ببركات ربانية مهيبة .. و الكثير  من الناس عندما يكبر على جهله و يُصِرّ على ما اعتاد عليه وهو صبي و شاب - و من شيب على شئ شاب عليه- تجده بعيدا ًكل البعد عن أمور الآخرة وحياة ما بعد الموت ... لكن حاج دفع الله الآن فى نهايات عمره قد تحول إلى راهب امتلاء قلبه بالإلهامات الروحانية... و ها هو لسانه يلهج بالاذكار السُنِّية الشريفة !.                      
كان صباحاً هادئاً شديد الإشراق محملاً بأنفاس الصيف الدافئة وقد سكنت أنسامه لتحل مكانها شيئاً من السخونة تندى الجبين وتجعل الجسد ينزف عرقاً , وشعرت وكأن نشاطي يتبخر وحيويتي تذوب مع أن الدنيا (صباح)... قاومت الكسل ونهضت جالساّ علي عنقريبي محيياً حاج دفع الله بتحية الصباح :
-         صباح الخير عمي دفع الله... كيف أصبحت ؟!
-         الحمد لله يا ولدى ... كيف حالك إنت؟!
لم يسترسل معي في أى حديث بل إستمر يردد في أوراده بصوت مسموع ... ثم تذكرت وصية ناصر ...( يازول ..! هسع الحاج ده بكون شرب شاى الصباح؟! ) وجعلت أنظر حوله جيّداً فإذا بي ألمح بجانب العنقريب كوباً زجاجياً من نوع (عثمان حسين) موضوعاً علي الأرض وبه آثار شاى اللبن وبجانبه (صِحين ) صغير عليه بعض بقايا رغيف ... رغم فَهْمي للأمر إلا أنني بادرته سائلاً للمرة الثانية:
-         يا حاج شربت شاى الصباح واللا أجيبو ليك ؟!
-   عووك.... شربتو بدرى خلاص!.. شربت شاى الصباح وأكلت معاه عيشة كمان... بارك الله فيك يا ولدي!
حمدت الله علي ذلك ..ثم عدت إلي حقيبتي الصغيرة وسحبتها من تحت العنقريب  تناولت فرشاة الأسنان وعبأتها بالمعجون, ثم خرجت لأستاك ,حتي أكون جاهزاً لشاى الصباح, وبعد فراغي من السواك ذهبت إلي غرفة العزابة .. فوجدتها خالية تماماً ليس فيها أحد فالجميع خرج يطلب الرزق .. فالوقت تجاوز التاسعة صباحاً بكثير, إتجهت نحو الفرن فوجدت هجو  مشغولاً مع عمال الفرن فحييتهم :
-         السلام عليكم..!
-         عليكم السلام .. أهلاً العوض .. تعال جاى!
   وسحب كنبة صغيرة من داخل الغرفة التي يوضع بها العيش المنشول من الفرن, إلي الخارج وأجلسني في ضل الضحوية الذى كان رائعاً في صباحية ذلك اليوم الصيفي الحار .. ثم نادى بإحدى بائعات الشاى التي كانت تجلس تحت الشجرة في المربوع المقابل للفرن :-
-         حاجّة عشّة كباية شاى مظبوطة للضيف ده ..!
   جعلت أتناول الشاى وأنا أتأمل الحياة حولي هنا في هذا الحي الكئيب الجامد . فقريتنا علي صغرها تكاد تكون أكثر حيوية من هنا ! . إلا أن الذى يلفت إنتباهك هنا: هو كثرة عربات الكارو خصوصاً الكارو (أم عجلين) التي تجرها الحمير, وتبدو أنها مصدر رزق كبير ولشريحة هائلة من الذين يعيشون علي حافة الفقر !.. فلكي تعيش هنا في هذه البلد لابد أن تعمل! .. فإذا لم تعمل تكاسلاً أو تكبراً, أو لم تجد أى عمل بالمرة، ستجد نفسك عندها مضطراً لأن تسرق أوتنهب بشتي الأساليب والصور.. لا أحد هنا يصبر عي الجوع والفقر فالقليل من يذكر الفقراء أو يرحمهم !... ولم نسمع بأن أحدهم مرض أو ما جوعاً, فالكل يريد المال ولو بالطريقة الحرام .. والذين لايريدون الحصول عليه   بتلك الطريقة قليل!..فالأكثرية يمنعها من ذلك العجز والخوف وصعوبة الحصول علي أموال الغير مهما اتبعت من أساليب المكر والإحتيال!, لأن الجميع حريص علي ماله حرصه علي حياته !.
بعد الشاي ذهبت راجلاً إلي سوق أم دفسو القريب, لأتناول جريدة أتسلي بها .. فأقسي ما يعانيه الشاب الزائر إلى مكان غير مألوف هو الشعور بالفراغ والعطالة .. فأي ساعة من عمر الشاب تمضي بدون عمل أو إنتاج تعتبر خسارة عظيمة ربما لا تعوض أبداً.. لإنها ساعة تملك فيها القدرة علي الإنتاج, و تستطيع أن تعمل فيها ما تريد مما يفيدك في شخصك ويفيد غيرك !.. إذا أهمل المرء ساعات شبابه ستنسرق وتتسلل ماضية إلي غير رجعة إلي حين نهاية مقامه في هذه الحياة الدنيا .. وستحل بدلاً منها ساعات الشيخوخة وإنتكاسة العقل والجسم, فتأتي الساعة وتتمني أن تنجز فيها أبسط المهام فتعجز بسبب الضعف . بل ستمر بك ساعات تعجز فيها عن القيام حتي بوظائفك الحيوية الضرورية!.
فساعات العمر الهرمة العاجزة والقادمة حتماً, تحتاج بالضرورة إلى أن تقدم لها من ساعات العمر الشابة الممتلئة قوة وحيوية !. فالذى لا يفطن إلي هذه السنة الكونية الثابتة سيندم ندماً شديداً عند كبر سنه ولكن حينها سوف لن ينفع الندم !.... لهذا عزيزى القارئ إذا كنت شاباً فاجتهد في العمل الحلال, وقدّم للسنوات التي سيدوم فيها العجز ويقل فيها الحول والقوة وهي لا محالة تنتظرك !.. وإذا كنت قاربت أن تفارق مرحلة الشباب أو جاوزتها بقليل فتدارك عمرك, وإغتنم ما تبقي من قوى شبابك.... وشئ خير من لاشئ !.... والإنسان في النهاية لا ينفعه إلا ما يملكه هو لا ما يملكه الغير . وكما يقول المثل: ما حك جلدك مثل ظفرك !.
تناولت الجريدة وأنا أتأمل عناوينها أثناء رجوعي إلي المنزل :
... وزارة التربية والتعليم السعودية تتعاقد مع نظيرتها في السودان لإنتداب  3 ألف معلم للعمل في المملكة .
...الطاقة والتعدين .. التعاقد مع شركات أجنبية لإستكشاف الذهب والبترول بشرق البلاد .
...إغتيال أكبر تاجر بلح بأمدرمان أثناء عودته لمنزله عشية أمس .
... الثروة الحيوانية والحياة البرية: الصيد العشوائي يهدد بإنقراض فصيلة نادرة من الطيور البرية ..........!!
  وبعض العناوين الأخرى التي لا تسعف الذاكرة بإستحضارها الآن . لكن الشاهد في الأمر أنه لم يسترعي إنتباهي أيّاً منها, لأنها كانت عناوين كلاسيكية ومكررة لا تسمن ولا تغني من جوع ,فهذه المواضيع جميعها لا تهمني لامن قريب ولامن بعيد !
       حينما وصلت إلي غرفتي وجدت مع حاج دفع الله رجل يرتدى ملابس أفرنجية ، وقد تقدم في عمره قليلاً...وحسب تقديرى فإن عمره أبداً لا يقل عن الخامسة والخمسين أو الخمسين علي أقل تقدير .. فرأس الرجل أشيب بالكامل لا تكاد تميز فيه شعرة سوداء واحدة!. كان طويل القامة نحيفاً وضعيف البنية ثرثاراً لا يتوقف عن الكلام !.
-         السلام عليكم...!
-   عليكم السلام .. أهلاً  يا شاب .. ده منو يا حاج دفع الله الزول ده ماشفتو قبال كده .. لكن فيهو شبه أولادكم الشغالين في الفرن ديل!
-         الولد ده .. ود اخوى عديل .. عندو أغراض دار يقضيها بكرة قايم البلد .
-         ما شاء الله . دى جريدة اليوم ؟!.. عليك الله دقيقة النتصفح فيها شوية ..!.
تناول مني الجريدة وجعل يقرأ فيها ويثرثر :
-   بالله شوف السعوديين ديل طوالي بنتدبوا مدرسين...! الناس ديل مالن ما بنتدبوا ممرضين..؟ خلي بالك الناس ديل نصاح ما قعد يمرضو !
لم يمر بعنوان صغيراً كان أو كبيراً, إلا وعلّق عليه وحلّله قبل أن يقوم بقراءة ما تحت العنوان !, وعندما يمر بخبر سياسي تراه يفور ويغلي, وينتقد ويتفه من قدر الإنجازات والخطط الإستراتيجية المستقبلية الحكومية التي دائماً ما تسطرها الجرائد السياسية في أغلب عناوينها ومقالاتها, ويعلق ساخراً:
-   شوف الناس الكدابين ديل! .. شوف عليك الله: ده عنوان كبير ( خطة جادة لرفع أجور الموظفين والعاملين في المرافق الحكومية في الموازنة الجديدة..... وخطط طموحة لتحسين مستوى المعيشة للمواطن السوداني !) ده كلام هوا ساى ، الوزير القبالو قال كده....! ذى ما بقول المثل المصرى : (موت ياحمار احدِّي ما يجيلك العلوق !).
عندما فطنت إلي أمبول الدواء وهو فارغ , وبجانبه حقنة فارغة - وتبدو قديمة – وهي موصولة بإبرتها والجميع مُلْقَى بإهمال علي المنضدة الخشبية الصغيرة الملاصقة لعنقريب الحاج .. هنا فقط فهمت أن هذا الرجل ( الهتراش ) هو ذات  الممرض الذى يقوم بحقن عم دفع الله !.. لا أدرى كيف سيكون رد فعل القارئ إذا قلت له أن الحقن المعدة للطعن في ذلك الزمان لم تكن بالوفرة التي نشهدها الآن: فالممّرض لكي  (يطعنك حقنة), يضطر لأن يغلي الحقن مع إبرها والتي يحملها في ( حُقَّة ) أو علبة مستطيلة صغيرة ـ وذلك بالنسبة للممرضين المتجولين الذين يذهبون إلي بيوت المرضي الذين لايستطيعون المجئ إلي الشخفانة بأنفسهم- وذلك في إناء نظيف حتي تصير الحقنة معقمة تصلح للإستعمال .. أما مسألة أن يتم طعنك بحقنة من تعقيم الشركة وتفك لك من كيسها لأول مرة وأمام عينيك, فهذا لا يتسني لك, إلا إذا كنت محظوظاً- وفي مستشفى كبير - أو كنت من أصحاب الجاه فتدفع للممرضين, لكي يأتوك بحقن جدبدة من تعقيم الشركة ..! لذلك من الطبيعي أن تتألم في الحال عندما يقوم أحد الممرضين أو المساعدين الطبيين بطعنك , فرأس الإبرة يكون قد فقد حدته بكثرة الإستعمال والغلي , فالإبرة لا تكاد تخترق الجلد إلا تحت الضغط و(الدوس ) الشديد من يد الممرض الخشنة القاسية !. وعندما ينتهي من إفراغ الدواء ويقوم بسل الإبرة , تجد ملابسك الداخلية قد تبللت بالدم ! وبعد فترة (تخزن الحقنة) وتتكون في إليتك -مكان الحقن – وتحت الجلد غدة في حجم وصلابة الليمونة الكبيرة مؤلمة ومزعجة !. فشكوى عم دفع الله من طريقة حقن هذا الممرض طبيعية وضرورية, لكن لاجدوى من التشكي وإظهار التظلُّم !, فإذا تم إستبدال هذا الممرض بآخر , حتي لو كان بدرجة باشممرض أو مساعد طبي, فإنه في نهاية الأمر سيقوم بنفس المهمة, وبذات الطريقة التي فعلها سابقه ,فالأسلوب المتبع ثابت ومعروف ولا يمكن تغييره !.
   لملم صاحبي أوراق الجريدة التي بعثرها يمنة ويسرة, جزء على العنقريب وجزء ملقي على الأرض! - فأسلوب الممرضين دائماً خشن ليس فقط في الطعن وضرب الإبر بل حتي في قراءة الجرائد اليومية- ثم ناولني إياها :
-   إتفضل يا ابني شكراً ليك ..! أها يا حاج دفع الله بعد ده أنا قايم الساعة فاتت عشرة عاوز ألحق الوردية في المستشفي !.
وعندما خرج عم الهدوء الغرفة ولا يُكاد يُسمع فيها صوت سوى طقطقة أوراق الجريدة وأنا أقلب صفحاتها بين الفينة والأخرى أثناء قراءتي لها بإهتمام وشغف .. الوقت يمر دون ملل عندما تكون  منشغلاً بأمر محبب إلي نفسك ، بل و تشعر وكأن أحداً يسرق منك الدقائق والساعات !... أحسست بشبح يقترب نحونا وقد أثر على الإضاءة الواقعة على كلمات الجريدة, لأنني في تلك الغرفة المظلمة كنت أعتمد على ضوء الشمس القادم من باب الغرفة , وذلك الشبح يبدو لي أنه  أتى من تلك الناحية التي فيها باب الغرفة!, إلتفت جانباً فإذا بهجو يدخل علينا وهو يحمل بكلتا يديه ( صحناً ) كبيراً مليئاً بفتة الفول المصلّحة مغطاة بالسلطة وفتات الجبنة, تقوح منها رائحة البصل وزيت السمسم !.... رميت بالجريدة جانباً ثم نظرت إلي ساعتي فإذا هي قد تجاوزت الحادية عشر صباحاً.. كان إفطاراً متأخراً جدّّاً... لعل هجو فطن إلي ذلك فوجه كلامه إلي الحاج معتذراً :
-         أعفا لينا عم دفع الله .الليلة أخرنا عليك الفطور شديد..!
-         أبداً يا ولدي حرّم ذاتو مافي نفس لكن الواحد بِجَبَّر ساي !
   جلسنا نحن الثلاثة فقط علي السباتة, وجعلنا نلتهم من تلك الفتة اللذيذة ! رغم الشعور بالجوع الذى يبدو إنه كان يسيطر علينا, إلا أننا كنا نأكل بتأدب ومهل فكمية الطعام كبيرة بما لا تتناسب مع ثلاثة أشخاص من بينهم شيخ كبير ، لذلك إستغرق منا هذا القدح المهيب زمناً طويلاً لنفرغه مما فيه من الطعام , كنا خلاله نتبادل القصص والحكاوى والكثير من الطرف والنكات ، ومعروف بالطبع أن الطعام إذا إختلط بالكلام وتخلله الحديث والضحك فإن الذي يأكل سيجد نفسه قد تناول منه كمية كبيرة , لا يستطيع تناولها إذا حدث أن أكل لوحده منفرداً, أو إذا كان يأكل مع مجموعة صامتة لا تتحدث بأى حديث أثناء الطعام, إمتدت الونسة لوقت طويل بعد أن فرغنا من تناول الفطور لم تنقطع إلا بصياح أحد عمال الفرن وهو ينادى هجو :
13ـ صاحب الضريبة




وقفة بسيطة :- 

انوه الى القراء الكرام الاطلاع الى هذه الكتب القيمة التي قلما تجدها مجتمعة!
قم بتحميل ما ترغب فيه منها وحاول قرائتها وعالج نفسك بنفسك بدلا من من اللجوء الى الدجالين والمشعوذين...
عافانا الله واياكم.... والكتب هي:-



















































51- 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق