إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 13 أغسطس 2013

21- السر والمفاجأة الغريبة









21ـ السر والمفاجأة الغريبة!

    بعد ذلك توجهت علي الفور إلي منزل السر ودخلت مباشرة إلي الديوان. فعندنا هناك في القرية لا نعير إهتماماً كبيراً إلي  (حكاية) الإستئذان هذه خصوصاً إذا قصدت في زيارتك هذا الجزء من المنزل الذي نسميه (ديوان), وهو يدخله دائماً الرجال, فإذا كان هناك في القرية من يهتم بأدب الإستئذان يكون ذلك فقط حين الدخول علي الحريم والنسوان .. والديوان عزيزي القارئ عندنا في القرية - كما فهمت - خاص فقط بالرجال سواء كانوا من الضيوف أو سوي ذلك من الزوار… وجدته راقدًا علي العنقريب, وقد طوي المخدة (الجيعانة) تحت رأسه خالفاً رجليه أحداهما فوقا الأخري وهو يستمع إلي الراديو :
- السلام عليكم!...
التفت نحوى منزعجاً وقد اندهش حينما رآني أمامه فجأة دون أي  إشعار من بعد ينبهه بقدوم أحدهم نحوه:
-   أهلاً العوض .. حبابك والله...! بركة الجيتنى هسّع ، علي شوية كنت مارق علي الحواشة . اللقّاط عملوا مشكلة مع الحاج قالوا ما بشتغلوا إلايديهم حقهم مقدم !
-         انشاءالله خير الموضوع الناديتني ليهو شنو؟!
-         يازول ها أنا مواضيعي دي كلها خير .. عليك الله مشيك معاي الخرطوم ده لقيت فيهو شنو غير الخير !
-         والله الحمد الله ما اكون نكّار جميل مرقنا بفائدة...
-         انا الليلة يا العوض داير اقول ليك كلام..... بس يكون سر بيني وبينك وماداير فوقو أي شمشرة !
ثم نهض من عنقريبه وتوجه نحو باب الحوش ( المكركب ) وأغلقه بقوة وثبته بحجر كبير دفعه نحوه بعنف حتي أنه أحدث إصطدامه بالباب الحديدي صوتاً كبيراً  انتبهت له أمه التي كانت تعوس كسرة الفطور في التكل فصاحت به :
-         ده شنو يا السر ولدي .. خبارك بتسد باب الحوش من الصباح !
إستاء السر منها و طنطن  بعبارات ( الزهج ) والحيرة :
-   يمي انتِ ماك خابرة الكلّاب السعرانة الايام دي حايمة ..هسع  ده  ذاعوا في الرادي وقالو الايامات دي وقت السعر .. الباب ده تاني ما تخلوه فاتح يدخل علينا كلب سعران يعوق فينا واحد...!
حاول تبرير موقفه بتلك التلفيقات التي عادةً لا يقتنع بها اهلنا في القرية .ضحكت أمه مما قاله وزعَمه, وعجبت من تلك الادعاءات: .
-   والله انت يالسر ولدي مرات بتقطع لك حاجات من راسك ساي : كلب سعران شنو البسدو لُو الباب من دقش الرحمن ؟!....الله يهدينا ويهديك ياولدي!
-         الله يهدي الجميع يمي ... الباب كان سدوه البحصل شنو ؟!
-   هوي انا مالي ومالك؟ عليك الله اعملوا ترباس! . باقي انت بقيت خواف ذي ناس البندر الواحد بخاف من ضلوا !
إنفجرت  ضاحكاً  من هذا الحوار الظريف, الذي دار بين السر وأمه والذي كان السر يبدو فيه جاّدًا وغاضباً, وأمه تستنكر فعلته الغربية تلك ، فباب الحوش عندنا في القرية لايغلق إلا عندما يخلد الناس  للنوم بعد تناول طعام العشاء في الليل , فالناس هنا ( أَهَلْ ) وأسرة واحدة كبيرة !
دخل السر الديوان وجلس علي العنقريب بعد أن قام بإغلاق الراديو.
-   والله الحاجة دي الله يديها العافية ساي.. كلاما بقي كتير خلاص ! انا قفلت الباب ده خايف واحد من الشمشارين ديل يجي داخل علينا بلا خبار...لأنو الكلام الداير اقولو ليك ده سر شديد ما داير لي زولاً من الحلة يعرفوا .... !
-         يا كافي البلا!! انت كاتل لك رقبة وانا ماعارف يا السر ولا شنو ؟! يازول خوفتني عديل كده !!
ضحك السر ثم صمت قليلاً :
-   لا لا  ياخي اعوذ بالله ! الموضوع : بسيط شديد! بس خايف من الناس  البعملوا من الحبة قبة ديل .. تعال لي جاي العوض وارخي لي أدانك كويس واسمعني بس ما تقاطعني احدى ما أتم ليك القصة كلها !
بدأ السر يسرد في أصل الحكاية التي يريد أن يساررنى بها-لأنه يري ويزعم أن القصة في النهاية لا تخصه هو فقط, بل تشملني أنا أيضاً – أخذ يحكي وبتفاصيل مملة, مدعماً كل فقرة بكم هائل من التبريرات والإيضاحات التي تدعم موقفه وتقويه, وتجعله في مكانة الفقيه والعالم الذي يفتي لرعاياه وأتباعه بإباحة المحظور إذا ضاق الحال وتحقق الهلاك .. لم أتوقع أبداً أن يصدر مثل هذا منه, فقاطعته مراراً حتي كدت أن أخرج من عنده دون أن أنتظره ليكمل حكايته المخجلة والجبانه تلك, إلا أنه كان في كل مرة يرجوني ويستحلفني  أن أصبر ولا أقاطعه حتي أسمع منه إلي النهاية!.
-   العوض اخوي صلي علي الرسول ... حلّفتك بالله أقعد في السرير ده واسمعني بس...  كان ما كملت ليك كلامي وعرفت الحاصل كلّو ما بتفهم قصدي شنو .. عشان كده عليك الله اصبر لي لامن أكمل ليك حديثي !!
قاطعته غاضباً:َ
-         خلاص يازول واصل ... كمل كلامك كّلو ...
جلست علي السرير ثانية بعد أن كنت هممت بالخروج, وجعلت أستمع إليه وأنا غاضب, لا أكاد أميز مايقوله من التفاصيل الدقيقة والتعليلات, لأنني بعد ما فهمت أصل الحكاية وأساس المشكلة التي تورط فيها-وورطني فيها- مات في نفسي أي فضول لسماع المزيد, ولم تعد لديّ رغبة في الإنتباه لأستمع إلي تبريراته الساذجة والماكرة في ذات الوقت. شعرت بالخوف والإنزعاج !.. إذا فلت هذا الخبر الصاعقة - الذي فأجاني به السر-  من بيننا وذاع في الحلة, سوف لن أسلم من تلك الجريمة الشنعاء.. فإذا برأني البعض لحسن سيرتي الذاتية, فإن الكثيرون لن يوافقوهم, بل يشكّون حتي في براءة  الماضي النظيف الذي أحمله, فالذي يؤاخي المجرم ويتابعه في النهاية يعتبر مجرم ولابد, حتي ولو كانت الحقيقة هي علي عكس ذلك تماماً !
إنتهي السر من حديثه ثم توجّه إليّ بسؤال الختام:
- أها يالعوض بعد السمعتو ده كلوا... لي حق ولّى ما لي حق في الموضوع العملتو ده ؟ !
أجبته بحزم ونبرة تحمل كلّ الإستنكار والغضب:
-   والله يالسر ولا ذرة حق ما عندك ، والله لوعارفك بتعمل العملة دي ما كنت تابعتك من الاوال ! ما الجواز ده  هدا طرفي منو.. وسفر العراق ده بطلتو كلو كلو !.
ثم نهضت قائماً أريد الخروج .. إلا أن السر أمسك بيدي وحاول تهدأتي ودعاني إلي الجلوس لمزيد من النقاش والمفاكرة, علّنا نصل إلى حل  لهذه المشكلة التي كان يراها بسيطة ولا تستحق كل هذه التهويل مني . وحين يئس في إقناعي بالجلوس همس في أذني :
-   خلاص العوض الكلام ده سر بيناتنا أكتلو قبلو هنا ... كنت داير اقنعك  لكن شايفك اتحمقت .. ما مشكلة نتقابل وكت تاني .
-   أنت عارف يا السر أنا ما بقدر إتكلم  بالكلام ده لأني كان رضيت ولا ابيت داخل في المشكلة!.... كان ما كده حرّم علا كان فضحتك  بيت بيت وفريق فريق !.
ضحك السر ساخراً
-   ليه لكن يا خوي العوض...؟ ياخي انت ماقريت في المدرسة: من ستر مؤمناً  ستره الله في الدنيا والآخرة ؟!
خرجت دون أن أتلفظ بالمزيد من الكلام , وتبعني هو وفتح لي باب الحوش وأخذ يناديني وأنا ابتعد عن منزلهم :
-         بكرة المسا انا جاييك في البيت يا العوض...
لم أهتم إلي ندائه وواصلت مسيري نحو البيت, والذي وصلته مهموماً مغموماً, كانت أمي قد أنتهت لتوها من (عواسة) الكسرة وأخذت تعد في ملاح الفطور ... كان هناك عنقريب علي (ضل الضحوية) جلست عليه أراقب إخوتي الصغار وهم يلعبون ويلهون كانت عيناي تنظران إليهما وقلبي ذاهل عن ما يقومان به من أصناف اللعب واللهو ... إنه شعور قاسي عندما تكتشف أن من تظن  به الخير وتري فيه الثقة يريد أن يعبث بك ويورطك في جريمة دنيئة وخسيسة أنت برئ منها براءة الـ........ أدع لك باقي الجملة لتكملها بنفسك عزيزي القارئ وكيفما يحلو لك !  أيقنت أنني في مأزق كبير ليس له علي كل حال علاج أو حل, فمهما طال الإنتظار لابد أن يتسرب الخبر وينكشف السر, وهذا ما أقلقني وجعلني أفكر في طريقة ما للخروج من هذه الورطة . وجميع الحلول التي خطرت ببالي غير مجدية ولاتفيد في كشف هذه الغمة عني, وأخيراً استسلمت للواقع, وأوكلت أمري الي مالك الخلق وجعلت أكثر من الإستغفار وقول لا حول ولا قوة إلابالله, عسي أن يأتي الفرج القريب!.





اليكم اعزائي القراء هذا الرابط الهام:-

مكتبة علاج امراض الجن والشياطين






وقفة بسيطة :- 

انوه الى القراء الكرام الاطلاع الى هذه الكتب القيمة التي قلما تجدها مجتمعة!
قم بتحميل ما ترغب فيه منها وحاول قرائتها وعالج نفسك بنفسك بدلا من من اللجوء الى الدجالين والمشعوذين...
عافانا الله واياكم.... والكتب هي:-



















































51- 

20- وصلنا القرية






20ـ وصلنا القرية

     بعد أن توقف اللوري نزلنا وسريعاً تفرق الجميع داخل الحلة كل يقصد منزله . وعندما حملت حقيبتي وكيس الفاكهة التي استجلبتها من السوق قاصداً منزلنا ناداني السر :
-         اسمع العوض عليك الله باكر اغشاني الصباح في البيت عندي معاك موضوع مهم !.
-         يازول موضوع شنو دا البتغشاك ليهو من الصباح ؟ !
-         انت مالك يازول .. لامن تجيني بتعرفوا شنو !!
-         انشاءالله .. كان اصبحنا طيبين .. بجيك تب ...!
عندما دخلت فناء البيت وجدت كل شئ نائم وصامت, عدا أمي وأبي وهما يتناولان طعام العشاء !
-         السلام عليكم ....
-         هي سجمي .. العوض ولدي جا ..!
-         حمد الله علي السلامة العوض ولدي .. تعال جاي اتعشا معانا
 سلمت علي أمي وأبي ثم جلست بجانبهما اتناول معهما طعام العشاء, ودارت بيننا ونسة طويلة, حكيت لهما فيها عن كل تفاصيل الرحلة, وقد فرحا كثيراً عندما علما بأمر جوازات السفر وتيسر الإجراءات وشكرا إلي موسي ود سعيد خدماته تلك ودعوا له بالبركة . ومع ذلك فقد كان أبي غير متحمِّس إلي فكرة سفري إلي الخارج هذه ،لا سيما إلى العراق, فالأمر يحتاج إلي الكثير من المال والجهد ، ويتطلب أن تتحمل الأسرة ما لا تطيق حتي يصبح الفرد مهيئاً  وجاهزاً للسفر ، ابتداءاً من الجواز إلي (تذكرة الطائرة), ثم أنه غالباً ما يكون الإغتراب إلي هذا البلد بالذات غير مجدي ولا فائدة من ورائه ، ويتبين ذلك جلياً من حال الذين ذهبوا إلي هناك وعادوا, أو الذين ما زالوا مقيمين هناك يجنون الخزي وخيبة الأمل ، ولا يستثني من ذلك سوى بعض الحالات الشاذة والتي لم تجني سوي ثروة متواضعة ليست بكثيرة ولا تلفت الأنظار . أما أمي فقد كانت من المشجعين لي إلي السفر والإغتراب وهي التي كانت تدفع بأبي ليجتهد أكثر حتي يساعدني في ذلك . وكانت تتفاءل أن يحالفني الحظ هناك وأصبح فجأة ما بين ليلة وضحاها من الأثرياء ، وذلك بعكس أبي الذي كان ينظر إلي موضوع سفري هذا نظرة تشاؤم وحذر وخوف من المجهول !.
تجاوزت الساعة العاشرة ليلاً عندما استلقيت مجهداً علي عنقريبي وبملابس السفر، ولم أُفِق بعدها إلا بإخوتي الصغار وهم يوقظونني من النوم وقد كادت الشمس أن تخرج من الآفق :
-         العوض قوم  ورينا جبت لينا شنو من الخرطوم...؟!
نهضت جالساً علي العنقريب وسلمت علي الصغار بشوق شديد وأنا أضمهما إلي صدري, ولم ألبث قليلاً حتي ذهبت إلي حقيبتي واستخرجت الحلوي التي أستجلبتها لهما من السوق ووزّعتها بينهما, بعدها بدأت أتهيأ لصلاة الصبح التي كادت تفوتني لولا هؤلاء الصغار المبروكين !.
تناولت شاي الصباح وحدي مع أمي وإخوتي الصغار, فوالدي ذهب مبكراً إلي الحوّاشة ومعه أخي الذي يصغرني مباشرة, وقد استغربت لماذا  بكرا بالخروج إلي (الخلا) في مثل هذه الأيام, لأنه ليس هناك عمل يذكر سوي مراقبة العمّال الذين يقومون بجني القطن من (اللّقاط) الذين يقدمون إلي المشروع في مثل هذا الموسم يطلبون أرزاقهم من العمل بلقيط القطن, ويمتد بهم المقام بالمشروع إلي حين جني القمح لينالوا نصيبهم منه بعد حصاده . لذلك لم أفكر بالخروج إلي الحواشة بعد فراغي من تناول الشاي ، بل أطلت الجلوس مع أمي أتفاكر معها في كيفية تدبير مبلغ من المال أستعين به في أمر السفر, فقد وعدتني من قبل عقب سفر ابن عمي سالم إلي العراق قبل أكثر من عامين, بأنها مستعدة لبيع حُليِّها إن أنا إقتنعت بفكرة الإغتراب لاي دولة كانت, إذ أنني كنت في البداية رافضاً تماماً لمسألة الغربة هذه, ولزمت البيت أساعد أبي في الحواشة, وبمرور الزمن مللت (ملّيْت من قُعاد البيت !) وبدأت فكرة الخروج من هذا السجن الحنون والممل تعشعش في رأسي, إلي أن جاء السر ود المليح وقلب الموازين رأساً علي عقب ، ونقل هذه الفكرة من حيز الأمنيات والهزل إلي طور الجدِّيّة والتنفيذ ، فها أنا ذا من بعض ما جنيته وادخرته من مال - خلال عملي بالحواشة- استخرجت جوازاً, لكن تبقي الكثير من الإجراءات الأخري التي تحتاج إلي المزيد والكثير من المال الذي أجهل كيفية تدبيره في تلك الفترة الوجيزة الضيقة التي ضربها السر . لا أدري لماذا هل نست أم لأمر ما....  لم تتعرض أمي إلي الحديث عن حُليِّها لامن قريب ولا من بعيد, حينما طرقت عندها موضوع التمويل للسفر . ومن جانبي  أنا لم ألمِّح أبداً ولو بكلمة واحدة عن وعدها الذي قطعته لي باستعدادها التام منذ أكثر من عامين, بالتضحية بحُليّها وذهبها في سبيل سفري الموعود!. ومع كل هذه الهواجس والتطلعات لم أكن في غرارة نفسي مرتاحاً أو مرحباً بهذه الطريقة  الجبانة والكسولة للحصول علي المال من إمرأة ضعيفة لا سيما أنها أمي  وفي أعز ما تملك  من مال تدخره منذ سنين قديمة ليوم كريهة وسداد ثغر.... لا أتى  ذلك  اليوم..... !.
-         ياولدي مادام نويت السفر ربنا بساعدك ....وما تهم  للقروش ربنا بدبرا....!
-         كلامك صحي يمي.... قسم الجواز الهين ده ماكنت حاريهو يطلع...
-         والله كان ندّيّن إلا نسفرك أصلك ماتهم والناس البديوننا كتار!
-   عليك الله يمي كل شى ولا الدّين ده . انت البدينك ده قايلاهو ريّحِك ؟ هو ذاتوا وينو الزول البديِّن ده؟ واكن اتلقى ذاتو منو البصبر فيهم؟! إلا كان يذلوا الزول ويختو نخرتو في الوطا ! ...
-   انت مشيت بعيد كده مالك ياولدي؟.... خيلانك ديل ما شاء الله سوق الدهب ماسكنو كلو في مدني ؟ والله أنا كان مشيت ليهم ما بيابوا لي والله كان قلت ليهم ألف جنيه بِدُّوني ليها !.
-   هوي يمي أخوانك ديل أسأليني منهم انا!... كلهم بخلا !! حلوين لسان ساي .... لكن لامن تجيهم في القروش ده يقبلوا منك  كده ...!
ضحكت أمي من هذا الإتهام الذي وجهته إلى إخوتها :
-   أجي ياولدي .. انت كان كده ما بتعرف اخوالك ديل كويس ، والله اي قروش عاوزاها طوالي  بدوني ليها ولابسألوني منها!.
-         انت يمي لكن ما أختن .. لكن نحن وين؟!
-         خلاص يا العوض أنا دي البديّن ليك منهم - وريني القروش البتسفرك كمها ؟!
-         لا لا يمي سفراً بالدين ده ذاتو ما بلزمني !...
حزنت أمي عندما سمعت ذلك وصمتت برهة من الزمن تنظر نحو الارض ثم استطردت قائلة :
-   ياولدي انت براك شايف  الحالة العلينا...! هسع عندنا شنو؟!  الحاجات العندنا كلها كان بعنا منها شي واحد عيشتنا بتتجهجه ، وكان اتباعت ذاتو ما اظن بجيبلهن قروشاً يسفرِّن ! عشان كده وريني القروش البسفرنك كمّهن وتاني ما شغلتك اجيبن ليك من وين !.
-         خلاص يمي البتسويهو كلو خير..!
-         يلا وريني كمهن القروش ...!
-         يا يمي القروش السفّرن القبالي العراق بتسفرني ذاتي... ما عاوز اعمل لي شيتاً يخالف الناس !!
-   ود عمك سالم أُمّو قالت سفرو كلفن مية وتسعين جنيه... غايتو بشوف أول شي خالك عبدالحق بقولو دايرة لي ميتين وخمسين  جنيه دين كان ابي بأمِّنو دهبي وما ظن يابا...!
-   هوي يمي كان هبشتي دهبك ... انا السفر ذاتوا بخليهو ، كان دينوك خلاص ، ما دينوك حصل خير ! ....الشفقة شنو بنزل اتكرب في الحواشة دي ....سنة واحدة بطلع حق سفري ...!
-   كلامك عديل ياولدي .....لكن انا دايراك تمشي سوّى مع السر الرفقة سمحة في السفر والظروف ما معروفة !

19-غادرنا حلة الخرطوم



19ـ غادرنا حلّة الخرطوم!



    نقر جِدُّو علي الإستارتر وداس بقدمه بعنف على الابنص, فبدأت ماكينة اللوري تصيح وتئن, وصارت الأدخنة تتصاعد عالياً خلف العربة لفترة من الزمن, بعدها بدأ كل شيء يهدأ... صوت الضجيج والكركربة الصادر من الماكينة هدأ قليلاً والأدخنة بالكاد نراها, بعدها تغير الصوت الذي يخرج من الماكينة إلي صوت آخر تماماً أكثر رقةً و دفئاً!. بدأ اللوري يتحرك منساباً يتخطي شوارع وأزقة سوق الجمعة, مودعاً سوق البصل ومتباعداً عن (حِلَّة الخرطوم ) وعندما تركناها خلفنا تماماً صار الجميع يشعر بالراحة والطمأنينة !.
كان الجو حاراً خصوصاً وأن النهار قد انتصف, فأشعة الشمس تنزل شبه عمودية علي رؤوسنا ونحن علي متن اللوري المكشوف . والتيارات الهوائية القوية المتولدة جراء السير السريع للعربة, كانت تضرب بقوة علي أجسادنا وهي (سُخنة) وحارقة, فالمسألة صارت أشبه بسموم قوية الإندفاع تهب علي ركاب اللوري (الغُبُش)! لذلك تلفّح الجميع بشالاتهم حتي يقوا وجوهم وأعينهم من لفح السموم التي كانت تضرب بقوة علي الأجسام خصوصاً الرؤوس التي تمثل أعلي قمة في الجسد, حيث أنها تكون في مستوي من العلو تتزايد فيه قوة وشدة الرياح الساخنة, والتي تصطدم أول ما تصطدم بالرؤوس .. فقمت بوضع نظارتي السوداء علي وجهي واستخرجت شالاً صغيراً تلفحت به, فالمسألة لم تكن بتلك البساطة التي تتصورها بسبب وصفي غير االدقيق هذا !.
وصلنا مدني بعد العصر بكثير, وكان لابد  لنا من توقف طويل بعض الشئ في هذه المحطة المهمة والأخيرة, فهناك الكثير من الأشياء التي لم يشتريها البعض من الخرطوم بعد بيع  بضاعتهم وقبض ثمنها, وذلك بسبب فارق الأسعار خصوصاً محاصيل الطعام الرئيسية كالذرة والويكة والعدسية, وحتي القمح الذي لا يميل إليه أهل الجزيرة  كثيراً في تلك الآونة من الزمان.. توقف اللوري بالسوق  الكبير ونزل الجميع البعض يريد التسوق والبعض الآخر يريد فقط أن ينظر ماذا يجري في السوق, وبالطبع كنت أنا من ضمنهم لكنني فجأة تذكرت إخوتي الصغار عباس ونعمات اللذين لا يتجاوز أكبرهما السادسة من العمر, فعندما تخرج مثلاً من البيت قاصداً المدينة, أو ذهبت إلي (سَفْرَة) طويلة كهذه, عند عودتك لابد أن تتذكر الأطفال الذين معك في المنزل, فإذا حدث أن نسيت أو تجاهلت الأمر ولم تأت لهم بما يحبونه من بعض الحلوي أو الفاكهة, عندها سوف لن يرحموك, بل يمطرونك بالأسئلة المحرجة دون أن يعذروك, هذا إذا لم يتحول الأمر إلي بكاء وعناد شديدين إحتجاجاً علي قدومك من المدينة خالياً صفر اليدين, دون أن تستجلب لهم معك بعض الذي يفرحهم  (ويبسطهم) من الحلوي والموز!.
ولكي لا يتكرر معي مثل ذلك السيناريو السخيف, قمت بشراء بعض

18-العودة الى سوق الجمعة






18ـ العودة إلى سوق الجمعة

     الشارع الرئيسي الذي توجد به المواصلات بعيد بعض الشئ عن منزل موسي موظف الجوازات  الخدوم طيب المعشر..!  وأثناء مسيرنا نحو المحطة التي سوف نركب منها,  أوضح لي السر أننا سنمضي سوياً إلي منزل خالته بالصحافة  لإستجلاب مكرفونات الجامع .. لكنني لم أكن متحمساً لمرافقته إلي هناك, رغم أنني لم أذهب من قبل إلي تلك المنطقة من الخرطوم , فقد كرهت كثرة الصعود والهبوط من علي متن تلك المركبات العامة المزعجة التي تجلب الإرهاق والتعب .. كانت رغبتي أن أصل إلي سوق الجمعة بأسرع ما يمكن, حيث لوري عبد الفضيل وجماعة البصل من شُلّة الحلة :
-   انت عارف يا السر.... أحسن تمشي براك تجيب المكرفونات .. الصحافة دي بعيدة وجماعتنا ديل ما مضمومين كان باعو بصَلُن بدري ما بنتظروا كتير ... أحسن انا أمشي عليهم من بدري اصبّرُن احدي ماتجي !
فكر السر ملياً واحتار لاقتراحي ذلك لكنه في النهاية استحسنه: 
-   كلامك عين العقل .. عبدالفضيل الشفقان ده كان البضاعة اتباعت ما بقدر انتظر تاني...! خلاص امشي عليهم يازول.... كان شفتهت قايمين بدري شوية قول لهم انتظروا السر... الزول ده جايب معاهو مكرفونات الجامع !
وعندما وصلنا إلي المحطة ركبنا سوياً حافلة صغيرة نحو الخرطوم ، وعندما  وصلنا إلي السوق العربي حيث توقفت العربة معلنة نهاية مشوارها ، هبطنا منها ومن ثم افترقنا واتجه كل منا نحو المواصلات التي سوف تقله إلي الجهة التي يريدها!، كان الوقت يقارب الواحدة ظهراً حينما وصلت إلي سوق الجمعة ، لم أبتعد قليلاً عن الحافلة التي كانت تقلني, فإذا بي ألمح ابن عمي حماد ومعه  الهزيل ود جار النبي وهما يساومان أحد باعة المراكيب,  الذي كان يفترش بضاعته على الأرض، أظن أن أحدهما كان يرغب م في مركوب ( قَطِع جنينة) ويبدو لي أنهما لم يتتفقا معه في السعر, عندما تركاه مدبرين, واتجها نحو بائع  آخر ثم جعلا يساومانه !... اتجهت نحوهما خلسة دونما أن يلمحاني, حتي صرت وراءهما تماماً ثم أنني رفعت يدي وبسطت أصابعها, وفجأةً أهويت بكفي علي ظهر حماد وضربته ضربة هزلية قوية, أصدرت صوتاً مسموعاً, ثم وليت مسرعاً في المشي بعيداً عنهما, لم امضي خطوات , فإذا بحماد يجبذ بأطراف حقيبتي بقوة من الخلف, وهو لا يكاد يميزني من الغضب :
-         اقيف هنا يازول خبارك بِتْلَبِّع في الناس .. كان جنيت حرم هسع اوريك الجن الصح...!
وعندما التفت بوجهي نحوه, ألقى بقبضته الشرسة تلك بأطراف شنطتي , وانفجر ضاحكاً :
-   العوض ؟!! .. حرّم علي شوية كان عكازي المضبب ده نزل فوق راسك...! انت لسع حركاتك ديك ما خليتا .. حرّم كبرت بي جهلك!
ضحكنا جميعاً لتلك الطرفة .. وبعد السلامات والتحايا خابراني وخابرتهما, وعلمت أن اللوري  سيغادر بعد الظهر نحو الحلة بدلاً عن العصر كما أعلمنا عبد الفضيل, لأن محصول البصل وبسبب  ندرته في السوق هذه المرة قد بيع مبكراً, وأنهم الآن يجمعون المال من بعض  الزبائن الذين إعتادوا أن يستكملوا الثمن بعد تصريف البضاعة التي يدفعون في البدء نصف سعرها, وذلك بحكم أنه زبون أو بضمان أحد كبار السماسرة ممن يتعاملون مع حاج عبدالفضيل تاجر المحاصيل المعروف في الحلة ..!. بعد ذلك  رافقتهما  في السوق إلى أن ابتاعا - بعد جهد جهيد –  مركوباً جميلاً و بسعر معقول, كان قد أوصى  جارالنبى ابنه الهزيل بشرائه. وبعد المركوب (قطع الجنينة) لم يكن يريدان شراء المزيد من السوق. لذلك اتجهنا إالى حيث يقف اللورى و حيث يعسكر (عَرُّوب)الحلة - قطيعة تقطع العرُّوب!-  و عندما وصلنا  وجدنا الجميع  يقف أو يجلس هناك: منهم من يتناول القهوة مع ست الشاى المجاورة, و البعض يحزم حاجياته التى ابتاعها أو استجلبها من السوق, والكل يبدو مستعد و متأهب للسفر الذى تأكد لي أنه وشيك, و لا يفصلنا عن بدء الرحلة سوى تغيب بعض الذين لم يقضوا حاجياتهم في السوق بعد . و أهمهم بالطبع حاج عبدالفضيل  المموِّل الرئيسي للرحلة, فإذا لم يقبض كل مستحقاته من زبائنه المراوغين, سوف لن يحضر إلي اللوري ! سألني حاج التوم عن السر و استفسرنى عن سبب تأخره ,ولماذا لم نحضر سوياً؟, فأخبرته بأنه قادم ورائي ومعه مكرفونات الجامع، وأننى سبقته إلى هنا حتى أجعلهم ينتظروه إذا حدث أن بدأت السفرية قبل موعدها المضروب !. وعندما حانت صلاة الظهر قمنا وأديناها جماعة في سباتة افترشناها  بجانب اللوري . وبعد السلام وأثناء أداءنا الباقيات الصالحات  كنا جميعاً نتبسم ونضحك ونحن ننظر أمامنا نحو السر بجلبابه الأصفر و (سديريه) ألاسود وهو يحمل كرتونة كبيرة على ظهره وعلى أحد جانبيه تتأرجح حقيبة صغيرة معلقة على كتفه, وهو قادم نحونا بخطوات مسرعة !.
فقال الهزيل معلقاً :
-         ياجماعة تاني ما فضل زول غير حاج عبدالفضيل ....!
-         بعده ياالحلة جاك زول ... عبدالفضيل ماقريب هنا ! هسع بجي ما بتأخر !
 وضع السر الكرتونة علي الأرض ووضع من فوقها حقيبته وجلس علي السباتة وأنفاسه تعلو وتهبط :
-   السلام عليكم .. حرّم كنت متسرع خلاص ! دافرت في المواصلات وكابست فيها جنس مكابسة لامن خفت ينشلوني الحرامية!... خفت تفوتوني ....!
-   حرم يا السر كان حاج عبدالفضيل سبقك بشوية كده ما كان بتلقانا...! الناس زهجت من قعدة السوق وغلبا الصبر تبْ !
-   الحمدلله الوِصِلت بدري : حرّم العوض كلامو طلع صاح قالي الجماعة ديل ما عندهم صبر! ما معروف امكن يقوموا قبال العصر !.. واقيفو النسعلكم انتو عندكم كم كلمة؟... عبدالفضيل ذاتو لامن فتناكم قالنا بنقوم التلاتا العصر! .. الجدّّ شنو؟... ولا دي الشفقة الجابت جنا الكلبة أعمي....!
-   يازول هوي مافي حاجة بتأخرنا للعصر....  البصل وبعناهو . الجماعة كلهم اتسوّقوا.... الناس هنا عاين لها كيفن!... نايمة في الوطا وحالتا بالبلا... وانت والعوض تلقاكم ضاربين المكيفات اللات ناس الخرطوم ديل... !
-   عليك الله ياحماد سيبنا من كلامك الميّت ده.. الهزيل عليك الله ناولني الابريق ده النضوضا لسه ماصليت الظهر...
قعد السر على طرف السباتة وجعل يتوضأ , وأثناء ذلك استأذنه حماد والهزيل ليفتحا الكرتونة التي أتى بها, حتي ينظران إلي المكرفونات التي استجلبت للجامع, لكن  السر رفض ذلك وانتهرهما :