إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 13 أغسطس 2013

17 - منزل التوم ود سعيد








17ـ منزل التوم ود سعيد

-  السر اخوي هوي دحين ما في مطعم ولا سويق صِغيِّرهنا ناكل منو لقمة؟!.. ياخي ماظريفة نخش علي زولك ده جعانيين كده!
ضحك السر مني وتعجب من جزعي وضعف صبري علي تحمل الجوع:
-  أبشر يا العوض نحن والجوع أمانة ما اتفارقنا تب... شايف البوابة الكبيرة القداما العربية البيضا ديك.. ! ده ياهو بيت موسي ذاتو..!
وأشار إلي منزل قريب يبعد أمامنا خطوات, وبالفعل لحظات فاذا بنا أمام المنزل المقصود .. وبدأ السر يقرع بقوة علي الباب!  سمعنا صوتاً مرحباً آتياً من الداخل:
-       عليكم السلام أهلاً ....
ثم سمعنا وقع أقدام ثقيلة تقترب من الباب .. إنفتح الباب واستقبلنا رجل طويل يلبس (عرّاقي) و(سروال طويل) واضعاً طاقية بيضاء أنيقة علي رأسه, يشبه موسي كثيراً في ملامحه إلا أنه كان نحيفاً وطويلاً بعض الشئ, رحب بنا ترحيباً حاراً ودعانا إلي الدخول , وقبل أن نجيبه إلى طلبه بادره السر بالسؤال السريع:
-       وين الاستاذ موسي إنشاءالله يكون قاعد !
-       موسي موجود .. تعالوا كده اتفضلوا علي الديوان!
علامات الإنهاك والتعب كانت بادية علي ملامحنا وعلي نبرة الصوت الذى يصدر منا أثناء الحديث.أجلسنا الرجل فى الصالون ثم خرج وعاد سريعاً وهو يحمل كوبين من شاى اللبن ومعهما صندوقين من البسكويت, ووضع الصينية فى المنضدة أمامنا:
-       اتفضلوا شيلوا الشاى ياجماعة .. وعن اذنكم ماشى انادى ليكم موسى قاعد  قريب هنا فى بيت أخوه .
ثم خرج الرجل الكريم من عندنا ليخبر موسى بمقدمنا, وهنا طنطن السر ولم يعجبه منظر الشاى مع البسكويت, وكأنه استقلل من شأنه:
-  حرّم عمّنا ده عجيب خلاص ... طوالى لِفانا ليك بالشاى لا سعلنا كان متغدين ولا ما متغدين.. نحن ياخي جايّين من سفر.. صاحبك ده ما شاف شنطتك دى ولا شنو يالعوض؟!
أما أنا فلم أصبر...مددت يدي نحو الصينية وتناولت صندوقاً من البسكويت لأفتحه حتى أبدأ فى إخماد نار الجوع, إلا أن السر همس بي ممسكاً بإحدى يديه يدي وسحب بالأخرى صندوق البسكويت ولم يدع لي حتى فرصة فتحه:
-       يازول اصبر شوية خلى موسى لامن يجى ، حرم بنوريهو عديل نحن ما متغدين!.
وأثناء ذلك ونحن نتجادل فيما بين الإنتظار و شرب الشاى إذ دخل علينا موسى:
-       السلام عليكم ما شاء الله .. مالكم اتأخرتو كده يا السر انا قلت بعد ده تاني ما بتجو !.
سلم علينا سلاماً حاراً ورحب بنا ترحيباً شديداً، ثم نظر إلي الشاي في المنضدة أمامنا:
-       شنو ياجماعة الشاي ده ما عجبكم ولا شنو؟!
أجابه السر إجابة قاطعة:
-  لا لا.. المسعلة ما حكاية عجبنا ولّى ماعجبنا... لكن صراحة كده نحن ما متغدين!... المواصلات ما أدتنا مهلة كنا دايرين نصل سريع!.
-  حرّم بالغتو عديل كده!..  ليه ما وريتو عمكم عثمان ؟ الأكل ده الحاجة الوحيدة الزول حقو ما يختشي فيها !
كان ردنا مجرّد الصمت والضحكات الساترة لآلام الجوع . ثم أن موسي تناول صينية الشاي وخرج بنفسه لينظر لنا في أمر الطعام ونادي به السر :
-       عليك الله يا استاذ موسي الموجود بس اصلو ما تتكلفوا لينا !
-  ابداً يا اولادي نحن اصلوا ماقاعدين نتكلف لزول.. لكن بس الصراحة في مسألة الاكل دي بتريحنا شديد.. الواحد دايماً يعتبر الحالة واحدة!
عاد إلينا موسى سريعاً وأخبرنا أن الطعام سيحضر قريباً وأنهم سيجهزونه لنا بسرعة .. بدأ يسألنا عن أحوالنا وعن مدي جاهزيتنا لتحمل بقية التكاليف التي يتطلبها ذلك السفر الطويل الذي ننوي القيام به . وأخبرنا أن الجوازين جاهزين تماماً مائة بالمائة, فما علينا إلا أن نقوم بعمل التأشيرات وبقية الإجراءات الأخري . وصرح إلينا بأن له علاقات واسعة بموظفي المطار وعدد كبير من موظفي السفارات ولدول كثيرة مختلفة . وطمأننا كثيراً عندما أعلمنا بأن علاقته مع موظفي السفارة العراقية علاقة حميمة وأكثر عمقاً من بين كافة موظفي السفارات الأخري وقال لنا بالصريح :
-  كان شديتو حيلكم شوية اسبوع عشرة يوم بالكتير تكونو جوّة العراق وتدفعو فقط نص التكاليف البدفعوها الناس العاديين!..
كان موسي يجلس في صف الكراسي المواجه لنا, فقام السر من كرسيه علي الفور وجلس بجانبه :
-       انت عارف يا استاذ موسي كان خدمتنا في الخطوة الجاية دي تكون ماقصرت كلُّو كلُّو !!
-  حرّم أبشرو .. موضوع التأشيرة ده في يدي .. أما موضوع التذاكر ده عندي ودّ عمّاً لي كده بجيّهكم .. تدفعو حق تذكرة واحدة بس . واقول ليكم كلام ؟! حرّم ما بخلي زول واحد يشيل منكم  حق عمولة!.
-  عفيت منك يا موسي .. حرم كان عملت الكلام ده تكون ساعدتنا مساعدة شديدة خلاص . وتكون فكيتنا من ورطة كبيرة !
فجأة دخل علينا صبي في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمره, وهو يحمل صينية مغطاة بطبق أنيق, ووضعها في منضدة جانبية كبيرة يحيط بها عدد من كراسي البلاستيك الصغيرة .. ثم قدم نحونا ليسلم علينا وعرّفه موسي بشخصينا :
-  سلم ياولد علي الضيوف ديل.. ده ياجماعة ولدي الكبير أحمد... يلا قوموا اكلو طوالي وانا استأذنكم عاوز اتجهز للعشا الصلاة باقي ليها عشرة دقائق !
قمنا أنا والسر وأقبلنا نحو الصينية وأزلنا عنها الطبق الذي كان يغطيها, وبدأنا نلتهم الطعام بشراهة ونهم, كأننا لم نري طعاماً قط في حياتنا ! كنا نأكل صامتين لا يتحدث أحدنا إلي الآخر, فلا نكاد نسمع سوي وقع طحن الطعام بين الأضراس التي يحركها فكّيْن جائعين لكل منا . كانت صينية ضخمة ومليئة بأصناف الطعام, والرغيف متراكم علي جوانبها, وتكفي لإشباع عشرة أشخاص سوانا, لكننا كنا نأكل بإهمال وطمع وحمّلنا بطوننا البائسة والجائعة في ذات الوقت فوق ما تطيق وتحتمل من الطعام! وفي النهاية قمنا من الصينية بعد ما أن صارت البطون لا تستطيع تقبل المزيد من الطعام! لأننا في البداية لم نلبي شعورنا بالشبع وظننّاه شعوراً كاذباً سببه الجوع الشديد!... تباعدنا عن الصينية وهي ماتزال بها الكثير من باقي الطعام يكفي لإشباع عدة أشخاص جائعين !              
 بعد أن فرغنا من تناول وجبة الغداء مع العشاء جمع تأخير, قمنا علي التو نتوضأ لصلاة العشاء التي رفع أذانها أثناء هجومنا علي الطعام  هجوم (ناس المجاعة) علي ما تسقطه طائرات الإغاثة من طعام! وكنتُ اقترحت علي السر الذهاب إلى الجامع لكنه تكاسل وتثاقل:
-       يازول بعد ده ما بنلفي الجماعة . ونحن ذاتنا تعبانين وبطنا دابو الاكل خشّاها... أحسن نصلي قبلنا هنا!.
شجعني بذلك على التكاسل عن الذهاب إلي الجامع, ثم قمنا نصلي سوياً لكنه هذه المرة أصرّ أن يكون الإمام أنا والسر المأموم, وبعد السلام أشفعنا وأوترنا ... ثم عمد كلٌ منا إلي سرير من الأسِرّة الثلاثة التي كانت مرصوصة في الصالون ورقد عليه, ولاحظنا أن صينية الطعام قد إختفت وحل مكانها صينية أخري بها (ترمسة) وعدد من أكواب الشاي, وقد أحسست بحركة الشخص الذي قام بذلك أثناء أداءنا للصلاة, إلا أنني لم أستطع تمييزه وأظنه نفس الصبي الذي أحضر لنا الطعام.
-  العوض قوم جيب صينية الشاي ديك من السفرة ختها حدانا هنا... انت عارف تعبنا ده كلو سببو الشاي ده!.
جعلت أصب الشاي لكلينا .. وأثناء ذلك وقبل إنهاء هذه المهمة حضر عمنا أستاذ موسي وقد حيانا:
-       السلام عليكم .. اتغديتو؟... إنشاءالله الأكل عجبكم !
-       والله ماشاءالله .. حرّم اكلنا لامن خلينا الفضلة ربنا يدوم النعمة .. العوض كب لي أستاذ موسي شاي!...
-  لا لا .. شكراً .. انت عارف انا غير شاي المغربية الـ باللبن... تاني نهائي ما بشرب شاي بالليل... ياخي نحن كبرنا خلاص ! تاني الشايات الكتيرة دي مابتنفع معانا!.
جلس موسي علي الكرسي المجاور للسرير الذي يرقد عليه السر, وأنا جالس بطرف السرير الملاصق  له أصب الشاي .. وبدأ السر يسائله عن أمور التذاكر والتأشيرات وهل ستستغرق بعض الوقت, وكيف سيصبح الأمر إذا كنا نملك فقط من المال ما لايكفي حتي لإتمام إجراءات شخص واحد يريد السفر للعراق؟! وبدا السر مستعجلاً, وكأنه يريد السفر لو أمكن غداً وليس بعد أسبوع أو عشرة أيام كما أوضح لنا الأستاذ منذ البداية:
-  ياخي يا عم موسي ما تجهز لينا أوراقنا بالقريشات العندنا دي!.. انت زول علاقاتك واسعة.. عاوزين نقوم سريع ياخي...اسبوع ده  والله كتير شديد علينا!
ضحك موسي بأعلي صوته ثم أردف قائلاً:
-  شوف يالسر ولدي خليك زول واقعي .. التأشيرة كان طلعت سريع تب تطلع في خمسة يوم والعادة بتطلع في سبعة لي عشرة أيام تقريباً .. لكن موضوع التذاكر والحجز ما اظن فيهو أي مشكلة ولا بتحتاجو تشيلو تذاكر في يديكم !
ثم بدأ عمنا يسرد في التكاليف الرسمية وجعل يقارنه بما سوف نتكلفه إذا أوكلنا له هذه المهمة ليقوم بها هو مستخدماً علاقاته الواسعة, وبالفعل سيكلفنا الأمر حينها فقط نصف ما سنتكلفه إذا ما قمنا بإجراءات السفر بأنفسنا وبالطرق  الرسمية . في الحقيقة كان عرضاً مغرياً وسخياً . لكن رغماً عن كل ذلك فهذا المبلغ بالنسبة لكلينا يعتبر معجزة, وإذا أخذ الأمر مأخذ الجد, فسوف لن يجدوا عندي ولا عند أبي مثل هذا المبلغ المالي الكبير. فأسرتي لا تملك من المال سوي ثلاثة شياه نتعيش من ألبانها, وكارو وحمار يستعين به أبي نهاية الموسم حين يضيق الحال بالناس ويقل ما فى ذات اليد ، فكنت فى داخل نفسى أخشى أن يضطرنى هذا السفر لدفع أبي إلى بيع شيء من هذه الأساسيات التى لا يستقيم قوام عيش أسرتى إلا بها, لإنها كانت تمثل ضروريات العيش العفيف الذى لايقهرنا فيه ذل الحاجة إلى الناس, ولا نضطر فيه إلى الدين الذى يحنى رقاب الرجال!.
إستوى السر قاعداً على السرير وقال مخاطباً موسي بجديّة:
-  هسع ده بسلمك نص المبلغ القلتو لينا.... وبعد اسبوع نديك الباقي.. لكن عاوزين لامن نجيك الدور الجاي نكون ناس سفر ساي... أي حاجة جاهزة !
-  جدّاً.. جدّاً !! انا ناسي البعملو لي الحاجات دي جاهزين ! بس متي ما جِهِزتو طوالي تسافروا .. وانا خدمت ناس كتيرة في الحتة دي حرّم لي هسع متشكرين مني !
-  لا لا يا موسي: أنا قصدي تبدا لينا طوالي موضوع التاشيرة... وكمان التذاكر ما تنتظرنا احدي نكمل قروشنا.. لأنو عشان لامن ندبر باقي القروش الكلام  ده امكن ياخد زمن ..ونحن ما دايرين نتاخر !.
-       كلام عديل ! خلاص الجوازات خلوها  معاي .. والمبلغ القلتو سلموا لي بكرة الصباح !.
وبدأ حوار ونقاش طويل بينهما يستفسر فيه السر عن آلية هذه الإجراءات المعقدة وعن إمكانية تجاوز المزيد من العقبات المالية التي تقف حاجزاً منيعاً دون تسارع إجراءات السفر بالصورة المطلوبة . ويؤكد له موسي أن هذا الذي يقدمه من عروض هو أقصى ماعنده, وليس بالإمكان تقديم أفضل وأرخص من هذا العرض, فالقضية تعتمد في النهاية علي العلاقات الخاصة مع القيادات وكبار الموظفين حتي يتجاوزوا بك روتينية الإجراءات الرسمية وتعقيداتها, ليقدِّموا لك ما تريد بأسرع ما يكون, لكن بطرق ملتوية!... وبالطبع كل من  يساهم في العملية سيطالب بحقه في العمولة!. وتبرّأ هو وتنازل عن حقه لأنه يعتبرنا من أبناء منطقته, فما يفعله تجاهنا مجرّد مساعدة يبتغي بها الأجر والثواب عند الله تعالي, والسمعة الحسنة لدي أهل المنطقة!.
لم أستطع إكمال هذا الحوار -الذي إمتد إلي ساعة متأخرة من الليل – إلي نهايته لأنني نمت سريعاً, وعندما أيقظنا موسي لصلاة الفجر قمت نشيطاً, وذهبنا معه إلى الجامع . وبعد أن عدنا جعلنا نتحدث أنا والسر و(نتونّس) إلي أن حضر شاي الصباح ! وأثناء تناولنا للشاي دخل عمنا الأستاذ وقد تجهز بملابس العمل وهو يحمل مظروف أحمر كبير, جلس بجوارنا ثم أنه إستخرج من ذلك  الظرف الجوازين خاصتنا :
-  شوفو يا أولاد نحن شغلنا نضيف كيف!.. دي جوازات جاهزة وسارية المفعول خمسة سنة . وسليمة مِيّة المِيّة من أي أخطاء...
عندما نظرت إلي صورتي الفوتوغرافية وهي ملصقة داخل الجواز, وقد ماسها جانب من الختم الحكومي الخاص بالجوازات والهجرة في الربع الأسفل منها, لا أنكر عليك عزيزي القارئ (اتنََفَخْتَ)... وشعرت بالكثير من الأهمية, وجعلت أقلب الجواز ورقة ورقة أنظر فيه وأتأمل:
-       ماشاء الله يا الاستاذ حرّم شغلك نضيف ما فيهو كلمة !
وشكرناه كثيراً علي هذا الإنجاز الكبير, وتلك البداية الموفقة التي جعلتنا نثق فيه ونصبر علي مواصلة التعامل معه إلى حين إتمام بقية الإجراءات وبثقة أكبر .
أخرج السر من جيبه مبلغًا من المال – كنت أحسبه كثيراً – وبدأ يعده ثم سلمه بعد ذلك إلي موسي الذي نهض قائماً
-  ياجماعة أنا بعد ده قايم الشغل... كدي سلموني الجوازات لانها أهم حاجة في الإجراءات .. بعدين كان ما فطرتو أوعى ما تمشو . أنا عارف لوريكم القلتوه ده ما بقوم إلا بعد الضهر للحلة ..  مع السلامة!
-       الله يسلمك .. بس يا استاذ اجتهد لنا شديد في الموضوع ده.. لانو نحن خلاص بقي ما عندنا صبر !
-  إنشاء الله يا اولادي .. بس دعواتكم .. وانتو كمان شدو حيلكم وجهزوا اموركم كويس .. سفر بره ده داير تجهيز شديد!.
أخيراً ودعنا وخرج قاصداً مكان عمله.
تناومنا قليلاً, فليالي الصيف دائماً قصيرة لا تكاد تجد فيها كفايتك من النوم (ونوم الليل ما بِتْعَوَّض )  لذلك أصبحت  - رغم تبكيري بالنوم قبل السر – مكسّرًا ( مهدود الحيل ) يتملكني شئ من النعاس, إلا أنني لا أستطيع النوم  في في مثل هذا التوقيت الصباحي من  اليوم ، ولا أذكر انني فعلت ذلك يوماً ما في حياتي . لذلك  استغربت للسر وهو يغط في نوم عميق في باكورة ذلك الصباح  الصائف .. فأمزجة  الناس ومقدراتهم على التكيف مع الأشياء بالفعل تختلف من شخص لآخر .. فما تستنكره من أمور تجد هناك من يستحسنها, وقد تري هناك من يستطيع  القيام بأعمال وأشياء تجد نفسك عاجزاً تماماً عن القيام بأدني  شئ منها .فحظ الإنسان في هذه الحياة ونصيبه من كل شئ يخضع لمشيئة مقسم الارزاق, الذي يرزق من يشاء بغير حساب ، فلا داعي للفرح أو التحسر بنوال أو فوات الحظوظ  والأنصبة, فالجميع من عند الله, لا من عند مخلوق ضعيف لايملك لنفسه نفعاً ولا ضراً. وبينما أنا كذلك سارحاً في بحار من الروحانيات ، تغمرني نفحات من فيوضات التفويض والتسليم إلى من  أزمّة الأمور بيده ... فإذا بالحاجة بتول زوجة موسي تلقي علينا تحية الإسلام بأدب وإحترام, وهي تقف عند باب الديوان وتأمرني أن أستلم منها صينية الفطور التي جاءت تحملها بنفسها ..  فالجميع قد خرج من البيت ( المشي للشغل مشي والمشي علي مدرستو مشا والدَقَش السوق دَقَش ) ... ففي المدينة يجب عليك الحذر من أن تبقي عاطلاً بدون عمل, فمجتمعها لئيم قليل الرحمة!... أخذت منها الصينية وشكرت لها ذلك وتأسفت إليها لما سببناه لها من الإزعاج والتعب:
-       والله ياحاجة بتول غايتو... بس أعفي لينا ساي... تعبناك معانا شديد!!
-       أبداً ياولادي مافي تعب كان درتو الزيادة نادوا علي...!                                       
وضعت الصينية علي السفرة والسر مازال نائماً .. فقمت بإيقاظه, فهب مذعوراً من نومه, وانزعج كثيراً عندما اكتشف أنه كان نائماً :
-         الخرابة الـ ... يازول ها الساعة كم هسع  ؟!
-         الساعة عشرة إلاربع .. قوماك  ناكل الحاجّة جابت الفطور !
-         كان كده أنا نمت نومة طويلة خلاص ... ما كان تخليني أنوم كده ياخي...
 قام من سريره وغسل كفيه ووجهه, ثم جلسنا حول السفرة ناكل طعام (الفطور) الذي كان عبارة عن عصيدة (بي ملاح روب) وأعجب السر أيّما إعجاب بهذا الصنف من الطعام والملاح اللذين يحبهما  كثيراً :
-         ماشاء الله .. ده الأكل ولا بلاش .. الله يجعل فيك البركة ياحاجه بتول ..!
وعندما فرغ  الصحن الكبير من العصيدة, استشارني السر أن نطلب من الحاجة المزيد منها, فأجبته بأنني اكتفيت تماماً ولا أستطيع أضافة أي طعام آخر إلي معدتي التي  امتلأت بالعصيدة :
-         والله انت يا العوض غايتو... اصلك ما بتشجع....!
ثم أنه عمد إلي الكورية التي كان بها ملاح الروب وبدأ ( يلحس ) ويلعق ما تبقي وعلق فيها من الملاح, مستخدماً في ذلك أصبعه السبابة, حتي  تركها نظيفة وخالية تماماً  من أي أثر للملاح ! بعدها أطلق جشاءً عالياً :
-   الحمد ليك يارب  .. اللهم أدمها نعمة واحفظها من من الزوال ! .. العوض اخوي هوي.... نحن نبقى مارقين طوالي... عشان عاوزين نغشي الصحافة نجيب المكرفونات قبّال نمشي سوق الجمعة.... اللوري بقوم بعد الظهر طوالي....
لم تمضي  دقائق كثيرة قبل أن نتهيأ تماماً للخروج. حملت حقيبتي وخرجنا من الديوان وصاح السر بالحاجة وهو يصفق يديه :
-         حاجة بتول السلام عليكم ......خلاص نحن باقي مارقين . نقول لك مع السلامة...
 جاءت نحونا مسرعة :
-         أجي يا اولادي الشاي جاهز..... عاوزين تمرقوا بلا شاي ؟!
-   والله يا الحاجة اعفينا من الشاي .... حرم ما قصرتي ...ونحن والله متشكرين منك شديد الشاي بنشربوا قدّام!....
أصّر السر علي الخروج متعلّلا بضيق الوقت وكثرة المشاوير والأعمال التي عليه أن ينجزها, والحاجة في الجانب الآخر تصر علينا أن نتناول الشاي, لأنه جاهز ولن يضيِّع منا أي زمن...!  في النهاية استسلمنا لأمرها ورجعنا ثانية إلي الديوان وأعقبتنا وهي تحمل صينية الشاي مع الترمسة.....تناولنا منها آنية الشاي  وشكرنا للحاجة كرمها وتفانيها في خدمتنا, ثم جلسنا نشرب بسرعة من ذلك الشاي (المظبوط والمجيَّه) وكان شاياً كما يقولون: ( بي راسو وقعرو)!... وعند خروجنا ودعناها ودعا لها السر بالبركات :
-         الله يديك العافية يالحاجة ...ويخضِّر دراعك ويخليك لي اولادك...! حرّم ما فضلتي لينا فضله !
-         اها ودعتكم الله يا اولادي  الله يعدلا عليكم ...سلمو لي علي أهلكم....



اليكم اعزائي القراء هذا الرابط الهام:-

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق