إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 7 أغسطس 2013

9- بيت العزابة






9ـ بيت العزَّابة


      ثم لم ألبث أن أخذني إلى داخل بيت العزّابة الملاصق للفرن, بعد أن أوصى رفيقيه ببعض معاملات البيع  التي تخص أصحاب الكارو الذين يقومون بتوزيع الخبز إلى المطاعم وبعض البقالات في الأحياء المجاورة. وما أن دلفنا إلى الغرفة التي يتجمع فيها العاملين بالفرن  وغيرهم ممن يعمل بالسوق , فإذا بالهرج والمرج والصراخ والتنابز بالألقاب, والأصوات ترتفع عالياً بالتظلم والمغالطات الهوجاء وبألفاظ فاضحة و بذيئة لا يجدر بي أبداً أن أصفها لك كما سمعتها, لكن اللبيب بالإشارة يفهم !. فقد كان يدور بداخل تلك الغرفة الطويلة – الأشبه بالصالون- مجلسان : مجلس للكتشينة وآخر للضمنة, والجميع يجلسون مُتَحلقِّين على سباتات من السعف  وفرشات بلاستيكية قد افترشوها على سطح الأرض , والأشياء حولهم مبعثرة ومشتتة , والملابس بكافة أشكالها معلقة على الشبابيك وعلى مسامير دُقّت وثبِّتت على جدران الحائط في منظرٍ مشين ينبئك عن مدى اللامبالاة والعشوائية و(البهدلة) التي وصل إليها أولئك العزّبة غير المنظمين! أحسست وكأني أقف داخل نادي عشوائي صاخب , والغريب في في الأمر أن جميع هؤلاء الشباب والكهول وبعض من قارب مرحلة الشيخوخة  والذين يديرون مجلس اللعب الصاخب - وعددهم 13 رجل – بجملتهم من قريتي أم ورل , ظللت واقفاً مدة أتأمل فيهم وأضحك ومعي هجو دون أن يكترث أي منهم  إلينا أو على الأقل إلى تلك الشخصية التي ربما تكون جديدة  عليهم إذا أخذنا في الحسبان أن هجو شخص مألوف  لديهم , ثم أن هجو أخذ يصفق بكلتا يديه عالياً:
-         هوي يا المديوشين ديل ؟..... خلّو شغلتكم الميتة دي  قومو سلمو علي الضيف القدامكم ده...!
التفت البعض نحونا , والأكثرية لم تكترث للأمر , فصاح أولئك الذين لمحوني وهم جلوس بمكانهم لا يريدون أن (يتلخبط) عليهم اللعب إذا هم قامو نحوي وتركوا أوراقهم مشتتة:
-         أووك ....! العوض ؟!.... كيف حلك يا زول .. كدي تعال جاي النسلم عليك!
كان سلاماً متعباً ومرهقاً, فقد أضطررت أن أسلم على الجميع وهم ثلاثة عشرة شخصاً كل منهم جالس على موقعه على الأرض حول دائرة اللعب , وذلك فرداً فرداً وسلام بالأحضان, ومع ذلك فقد كان سلاماً مضحكاً : فبينما أحدهم يسالمني معانقاً ويبادلك عبارات الترحاب والتحايا والسؤال عن الحال والأحوال وبنبرة صوتية هادئة ومرحبة وهو يربت  بإحدى كفيه على ظهري والأخرى ممسكة بكروت الكتشينة أو بعض قطع الضمنة ... فجأة يصيح بلهجة  غاضبة وزاجرة في أحد زملائه في دائرة اللعب :
-         هوي ...انقرِع يا كلب ابعد يدك من الكروت دي...!
فالبعض ربما يريد أن ينتهز فرصة السلام هذه و( اللخمة) والإنشغال الذي يحدث أثناءه فيحاول التخلص من بعض الكروت الرديئة واستبدالها بأخرى جيّدة، فحتى لو استطاع الحصول على كرت واحد جيّد يقوي موقفه في اللعب , فهو شاكر لذلك, فالأمر لا يهم طالما أن الأسلوب المتبع  هو التمويه والخداع, والمسألة برمتها مجرّد لعب  ولهو , ولكن هيهات لم يستطع أحد النجاح في ذلك فالشيطان محال أن يخدع شيطان مثله!
  وللحقيقة أيها القارئ إذا حدث أن حلّ أحدهم ضيفاً على قريبٍ له أو صديق بعد طول غياب وفرقة, ثم اتفق-مثلاً- أن استقبله بالسلام والترحاب وهو جالس  بسبب انشغاله بالتلفاز أو قراءة خبر هام في جريدة أو حتى باللعب بالكتشينة مع أصدقاء مهمين... فإن ضيفنا لا شك سيأخذ في خاطره بل سيغضب و(يتنفخ) :
-         بالله الزول ده أنا عندو هُوَيِّن للدرجة دي ؟! غلطان انا العديتو زول مع البشر !.
و(هاك) يا شكوى و (هاك) يا تظلم ويظل يسرد آلاف الإستفهامات والأسئلة ماذا يحسبني هذا المستكبر الحقّار؟!... ويحتار الضيف المسكين وربما دخل في حالة نفسية يرسى لها , وهو يسب ويلعن ذلك الشخص الذي سفّهه وحطّ من قدره , وبخّس من زيارته الأخوية , ولم يراعي رابط الصداقة والحميمية القديمة , وسوف لن يشفع له التعلُّل بعلة زوال الكلفة , فهذه العلة ربما تشفع لمن يزورك يومياً لدرجة انطباق المثل: ( كترة الطلة مسّخت خلايق الله) أما الذي يقصدك زائراً ولم تره لشهور طويلة ثم تستقبله بذلك الإستقبال البارد (البايخ) : سوف لن يقبل منك أبداً مثل ذلك الإستقبال البارد والسلام الفاتر , و أنت عنه ذاهل ومنشغل بما لا يفيد أو يُعذر بسببه , وأنت تعرفه حق المعرفة!... أليس هذا أمراً يثير ويغضب ؟! في الواقع أنا أقف مع هذا الضيف الغاضب , وإذا حدث أن سلّم عليّ أحدهم  في منزله وهو جالس – من غير عذر مرضي أو خلقي- مهما بلغت درجة حفاوته وترحيبه بي سوف لن أغفر له تلك الزلة أبداً وقد أقطع علاقتي به في الحين وربما لن أزوره ثانية إلى الأبد!... ولعلك تستغرب لحالي مع العزّابة وربما تستنكر هذا الموقف, مع المبدأ الذي أبديته , مع استسلامي لذلك النوع من السلام الفاتر  الكسلان الذي لم يتكلف فيه أحدهم  مجرد الوقوف قائماً لإستقبال ضيفه!... لكنني سأقول لك لكل مقام مقال .. فأنا إنما كنت أزور - ولكن ليس بمفهوم الزيارة المعروف-.. فغرضي الأول كان فقط المبيت بدافع الحاجة مع مجرد أناس عشوائيين  يعيشون حياة عشوائية مهملة , فلذلك كل ما يحيط بهم  ويصدر منهم من تصرفات ومعاملات  لايخلو من عشوائية , حتى إذا كان الأمر  يتعلق باستقبال ضيف عزيز لم يقابلوه لسنين  عديدة وطويلة !... وبسبب ذلك لم تزعجني طريقة استقبالهم  وسلامهم تلك ولم أتأثربها. فحياة العزابة هذه قد عايشتها منذ المرحلة المتوسطة إلى تخليصي لتعليمي الثانوي, وقد عرفتها جيداً وخبرتها . والمثير للدهشة  أن الكثيرين ممن ابتلوا في فترة ما من حياتهم بتلك الحياة البائسة، تراهم يحنون إلى حياة العزابة!.. تلك الحياة ( المبهدلة) ويزرفون لها الدموع (يا حليل حياة الحرية) وهل من عاقل يحن إلى حياة الإهمال واللامبالاة؟!.. بل هنالك من يدعونهم إلى منازلهم  لتناول الطعام , وآخرين يرسلون (صينية) الغداء وأخرى للعشاء ويصرخ الأب في إبنه:
-   قوم ياولد .. ودِّي  الصينية دي لي بيت العزابة ... الناس ديل مساكين ... حياة العزابة دي مُرَّة خلاص ... نحن ما عشناها وجربناها!.
أما النساء خصوصاً كبار السن من الحبوبات و الأمهات يتعاطفن بصورة غريبة للغاية مع مع العزابة لكنهن معذورات , لأنهن ربما يجهلن الكثير والخطير عن حياة العزابة العابثة اللاهية ! فالذي يمدح العزابة أو حتى يتعاطف معهم ويرثى لحالهم ,إما جاهل بهم وغيرعاقل أو هو الآخر  إنسان عابث يهوى الحياة الماجنة الخالية من المسئولية !.. فإياك عزيزي القارئ أن (تشكِّر لي الراكوبة في الخريف)!. ويحضرني في هذا المقام قول نبينا عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم: ( شراركم عزابكم وأراذل موتاكم) وإذا استرسلت في الحديث عن العزابة وحياتهم فغليلي  لن يروى  وكلامي لن ينتهي وربما اضطررت أثناء ذلك إلى الكلام عن المحظور لذلك رأيت أن أقصر الحديث إلى هذا الحد!.
هكذا انتهى السلام ( حق الله بق الله )مع أولئك العزابة المستهترين بالضيف- الذي من لحمهم ودمهم- وأنا لم (أزعل) لذلك كما قلت لك ..! ثم جلست معهم في السباتة , وجلس هجو أيضاً , وأخذوا يبادلونني الأسئلة المتكررة عن أحوال الحِلَّة وهم يواصلون لعبهم , وعندما أجيب على أحدهم يسمعني بآذان لاهية ويرمقني بعين ذاهلة, فلا يلبث قليلاً فإذا به يكرر عليّ نفس السؤال وشعرت وكأنني أخاطب طفلاً برئ ذو عامين يسألني وأجيبه ثم يسألني نفس السؤال وأجيبه ويظل يكرر إلي نفس السؤال دون ملل ويسمع نفس الإجابة كأنه لم يفقه شيء مما يسمع!. لكنني مع ذلك  كنت أكتفي بالإجابات المختصرة، وأضحك من لحال أولئك الراشدين الذين هم في يتصرفون بعقليات الأطفال والمعتوهين!, وأحياناً يغضب هجو وينادي لأحدهم :
-         ياخي الزول ده ما جاوبك  قالك حاج  الجبوري كويس... يا زول انت الليلة عقلك ده ما معاك ولا شنو؟
وكنت أضحك إلى هجو قائلاً له:
-         ياخي الحكاية دي عادية ... الناس مشغولين مع اللعب ..
ثم وجهت وبصوت عالي حديثي إلى النعيم ود حاج الصادق وكان أميراللعب في الحلة قبل إنتقاله إلى العاصمة :
-   شيخ النعيم.... عوووك!!.... قلت لي شلة النادي كلها جبتها معاك ... ما خاطي النادي في الحلة بقى فاضي زول ما بحوم عليهو!.
-   دى كلامك يا العوض .. حرم الكشتينة بقينا ما بنبقى بلاها محل ما الرزق ساقنا طوالي معانا ! يازول الدنيا فيها شنو؟ ما آخرتا كوم تراب!. عشان كده الواحد لازم يفرِّق طوالي...
وبدأ النعيم يسرد في وجهة نظره المؤيدة والمدافعة عن الكتشينة وأخذ يلفق في أدلة  سُنِّية تؤيد وتبيح الترفيه والترويح عن النفس لا سيما اللعب بالكتشينة , لكن حديثه انقطع بسبب مشكلة دارت بين أثنين من أفراد حلقة اللعب التي يجلس فيها. ثم لفت إنتباهي أحد الشباب الذي كان في القرية يحسب من المهذبين  ليس له شغل شاغل سوى الحواشة ...... البيت .... الجامع .. وهكذا دوليك..... لا يعرف شيئاً اسمه لعب  ولا شئ اسمه نادي , بل كان لا يفقه حتى الكثير من أمور الشباب الخاصة ومغامراتهم ومحنهم , ولم يكن يخوض معهم في محنهم ومجازفاتهم , ولم يحدث أن شاركهم في أحد حروبهم  الجاهلية ضد شباب القرية المجاورة في عهود الجهَل والدراسة! فصاحبنا كان سلبياً إلى أبعد الحدود في مثل تلك الأمور. لذلك كان شباب القرية يلقبونه بـ ( العوقة) و( الغنماية) والبعض الآخر  يناديه بـ ( الشيخ) و ( زول الله) !... تعددت عليه الألقاب  إلا أن الجميع كان يتفق في القصد العام  وهو السلبية والجهل الكبير بالكثير والخطير من سنن وحقائق الحياة!.
احترت لأمر ذلك الشاب وهو يتربع في دائرة الكتشينة يرتب الكروت ثم بسرعة يسحب أحدها ويضرب به  بقوة على سطح السباتة, فوق الكروت المرمية  ويتبع ذلك بصيحة عالية وهو يهتف بأحد مصطلحات لعيبة الكتشينة القبيحة والمزعجة !..... هالني هذا المنظر  الذي لم أشهده منه قط طوال تواجده بالقرية فلم أتمالك أن وجهت حديثي نحوه ممازحاً ومستفسراً:
-         بقيت لاعب خطير يا الهِدي
-         خطير ساي الكَيَشَة القدامي ديل كلهم قعد اجرّهم ليك...!
-   هـــوي يا الهدي اسمعني جاي ... انا ابوك حاج سعيد رسلني ليك من هناك .. قال لي الزول ده  تجيبو معاك الحلة  عشان يدّو بقت واحدة في الحواشة!
-   هوي يا العوض ... سيرة الحلة دي تاني  ما تْجِيبا لي ...! أنا وْهِيْ  خلاص اتفارقنا  فراق الطريفي لي جملو!... حرم تاني إلا كان العيد!
 ضحكنا أنا وهجو أما بقية الشلة فلم ينتبه منهم أحد إلى الأمر من هذا الحوار الطريف المضحك سوى  القليل :
-         الزول ما صدّق لقى الرغيف والفول المصري ... تاني دار ترجِّعوه للعصيدة وملاح الويكة!
-     ها... شوف الماجايبين خبر ديل...!؟... الزول ده هُوْ قايلين مقعِّدو الرغيف والفول المصري بس... الزول ده اسألوني منو أنا..!
وأخذ جاد الله  يسرد في أمور عجيبة وقبيحة : زعم فيها أن الهِديْ  صار يفعلها بل واعتاد عليها , فإن كان ما يقوله حقيقة فهذه مأساة وفضيحة كبيرة بالنسبة لشاب نظيف نشأ علي الطهر والبراءة!. والأغرب – وهو ما جعلني أميل إلى التصديق- أن الهِدي لم يعترض و لم يستنكر شيئاً من تهم و مزاعم جاد الله بل كان يضحك مستهتراً غير آبهٍ لما يقول ! .. تأكدت حينها أن تلك الألقاب القديمة التى كانت تطلق عليه بقصد التزكية من الإجرام و التبرئة من الأفعال القذرة قد صارت كذبة ! بل و انقلبت إلى ضدها !  فصاحبنا الآن ليس شيخاً و لا (زول الله )  فلو كان حقاً (زول الله ) لرأيناه مدمن للمساجد و حلقات الذكر و تلاوة القرآن على أقل تقدير للحكم على السلوك الظاهرى الذى رأيته الآن فى الهِدي...! أما سلوكه الباطن فقد كشفه جاد الله!!.
و هنا تأكد لى سوء مغبّة الصحبة السيئة ، و عاقبة الإقامة مع الشلة البطَّالة لا سيما إذا كانت شلة عزّابة فاسدة غير مسؤولة ... ومن غرائب الإتفاق أنّ أغلب الأفراد الذين يتجمعون فى هذا البيت هم من أراذل القرية و فجرتهم ممن إعتادوا على تناول الخمور و الأمور الاخرى (الما ياها !) .
لا تظن أيها القارئ أننى أُحقر من شأن هؤلاء – العزّابة – و أحط من قدرهم و لا أزعم اننى أفضل منهم ، فقط أريد أن أعكس لك بعض الجوانب المظلمة لتلك الحياة الهمجية الغير مسئولة و لا اقصد أكثر من ذلك !. أثناء إنغماسى فى ذلك المجلس الصاخب و أنا أختطف الحديث خطفاً و أجتذب الإجابات إجتذاباً من تلك الوجوه اللاهية و المنشغلة باللعب أكثر مما هى منشغلة بى !:


اليكم اعزائي القراء هذا الرابط الهام:-

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق