11ـ عم دفع الله
عندما دخلنا الغرفة وجدنا فيها شيخاً نائماً نوماً عميقاً مصدراً أثناء ذلك شخيراً عالياً، رغم وضوح هيئته مع ضوء الرتينة الساطع بلحيته البيضاء و جسده النحيل إلا أننى لم أستطع أن أميزه سريعاً و هو فى سباته العميق ،لا سيما وأن جزءاً كبيراً من وجهه كان مغطى بأطراف عمامته البيضاء... لم ينتظر طويلاً صاحبى و جعل يوقظه و قد أخذ يضرب بيده على أطراف إحدى رجليه :
- صحى النوم يا حاج دفع الله .... العَشَا قرَب قاعدين يجهّزو فوقو!
استيقظ بثقل و تَكاسُل و جعل يتمطّى و ( يتمغّى ) وهو راقد، ثم استوى جالساً على العنقريب و جعل ينظر حوله بإستغراب كأنه بعد لم يميز هذا الشخص الذى أيقظه فضلاً عن الذى يقف بجانبه :
- استغفر الله ...... لا حول ولا قوة إلا بالله ... دى الجية يا ولدى؟ الجَنَى المعاك دا منو؟!
دنوت منه و سلّمت عليه فسالمنى بحفاوة أصحاب الكرم، و عانقنى بحنان الشيوخ
- ده العوض وحاج إسماعيل!..
- حبابك يا ولدى كيف حالك .. كيف الجيت منهم .....
و كان سلامه طويلاً .. كثير الأسئلة، كثير التحايا و الدعوات بالبركة و التسليم ... و هنا تذكرت ما كان يردده الوالد عن حاج دفع الله (الطافِش) هذا وقد حكى لى أنه اختفى من أسرته لأكثر من إحدى عشر عاماً و دونما أخبار، و ذهب إلى (الغَرِب) بحجة تحسين المعيشة و جادله إخوته فى ذلك :
- يا اخوى دفع الله انت ماشى الغَرِب عشان تحسن معيشتك و لا عايز تطَيِّنا زيادة؟!..... البلد ديك يابسة و ناسا جعانين فى قَدُّومُن...!
- يا زول انت خلاص بعد ده بِقيت ماشى على كُبُر اصبر قَبَلَكْ هِنا .. ربنا انشاء الله بِعينك ... ورزقك بجيك وخليك زول مؤمن!!
لكنه فى النهاية لم يقتنع بأى رأى من آرائهم و لم يسمع لنصائحهم .. وسافر إلى كردفان ... و ترك أولاده التسعة من بنين و بنات مع زوجتيه مهملين بلا راعى ولا والي .. ثم انقطعت أخباره لأكثر من ثلاثة سنين ... و بعدها أشيع أنه ذهب إلى ليبيا عن طريق البر .. و كان يرسل المصاريف إلى أهله ثم لم يلبث قليلاً فإذا بالمصاريف تنقطع و كذلك الأخبار حتى أنه أشيع خبر وفاته، لكنه لم يقام له مأتماً فى الحلة لعدم تأكد الخبر و استمر الأمر هكذا إلى أن عاد إلى السودان بسبب المرض الشديد، حتى أنه لم يستطع بسببه القدوم إلى القرية، رغم غيبته االطويلة تلك و التى امتدت لأكثر من عشرة أعوام، و تكفل ناصر ود المقدم بأمرعلاجه فقد كان الشيخ مصاباً بداء الصدر اللعين .. فهاهو الآن يواظب على العلاج و المتابعة لأكثر من ثمانية أشهر منذ قدومه من ليبيا ...
ثم أن ناصر سأله :
- يا حاج صليت العشا و لا لسع؟....
- الحمد لله صليتو بدري.... قبال آخد نومتى دي.. الله يقبل..! .
- أوعى تنسى تبلع حبوبك البعد العَشَا....!
- لا لا ما بنساهم .. إلا لكن حبوباً كتيرة و مسيخة ... و قَدُر ما تَكْمَل الحكيم اللِّيلَك ده تانى يصْرُفِن لي ذاتِن.... خلاص كرهتهن تب الحبوب ديل .... بس جابرنى المرض ساى !
- الله يدِّيك العافية يا حاج!.. المرض داير صَبُر .. و كمان العلاج داير صبر اكتر من المرض ذاتو !
تناول ناصر إبريقاً و خرج ليصلى العشاء منفرداً، و بقيت وحدي مع الحاج .. و معروف أن الإنسان كلما تقدم فى العمر و زاد عمره زاد مع ذلك كلامه و كثرت حكاويه و قصصه .... و كان لى فضول كبير لأعرف خبايا و اسرار هذه الرحلة الطويلة التى خاض غمارها هذا الشيخ بدءاً من كردفان إلى ليبيا ثم أخيراً إلى السودان ... وعندما امتدت الونسة وعرّج بنا الحديث إلى هذا الجانب المثير من حياة الشيخ البائسة و سفره الشاق، هنا عدّل الشيخ من جلسته و أصلح (طاقيته) و أخذ يسرد لى بشغف و اهتمام عن كل تفاصيل هجرته داخل و خارج السودان و لم يدع لا شاردة و لا واردة مما له تعلق بتلك الرحلة من طرائف و مغامرات أو معاناة إلا قصّه و حكاه بكل وقائعه و تفاصيله الدقيقة، و كانت حقاً رحلة مثيرة و مدهشة !.
و عندما عاد ناصر ود المقدم من صلاته الطويلة، وجد القصة قد انتهت وقد بقى الكثير و المثير مما لم يُحكى !
- ذكّرتني يا حاج ...... انت عبد العزيز الممرض ادّاك الحقنة الصباحية ولا نساك ؟!
- لا حول الا بالله...... هُو ده بنسى ...! الزول ده اتعلم ضرب الإبر دي وين؟.... ياخي طعنو حار... وحُقَنُو كلها خَزَنَت !
- يا حاج دفع الله دي حقن فى الوريد بتخزن كيفن؟!
وقد ضحك ناصر من مزاعمه تلك وظن أن الأمر لايعدو مجرّد شكوي كاذبة من شكاوي (الناس الكُبار) لكنه انزعج عندما أردف له حاج دفع الله قوله:
- يا زول ها انت ماك جايب خير ساي.... لامن يغلبو الوريد قاعد يدينى ليها فى صُلْبى... ما قاعد يشوف كويس... زولك ده خلِّي بالك عِجَيٌز ! و قالِّى كلو واحد ...ياهو الطعن!
- ده كلام شنو؟ الحكيم قال الحُقَن دي بالوريد بس! . وأنا وريتو الكلام ده.. الزول ده بشتغل براهو من راسوا ! كان كده من بكرة بَوَقِّفُوا... بشوف ليك ممرض تانى .. !
فجأة جاء الناير .. - أحد عمال الفرن– وهو يحمل صحن كبير ملئ بالعصيدة الغارقة فى ملاح العدس (الرّّبوب) ذلك الطبخ الوحيد الذى يجيده العزابة ! وضع الصحن على الأرض و خرج .. ثم جلسنا ثلاثتنا نأكل من تلك العصيدة السُخْنَة، وعندما مضت عشرة دقائق لم أصدق أن ذلك الصحن الكبير قد فرغ تماماً من العصيدة التى لم تكن لذيذة لا هى و لا (ملاحها الطبوج المسيخ) لكن يبدو أن الجوع و لسان العزوبية يجعل طعم كل شئ لذيذ!.
- العوض و الحاج ما تقومو النجيب ليكم الزيادة...!
لكننا اعترضنا بشدة .. و أقنعناه بعد جدال و تعب بأننا لن نستطيع تناول المزيد من تلك العصيدة التي حمدت الله أنها نفدت و ( كِمْلَت) ... فناصر هذا كان شديد الإصرار فيما يمليه عليك من أوامر أو حتى آراء و اقتراحات !. قمنا و غسلنا أيدينا لنستعد إلى النوم .. فالساعة قد تجاوزت العاشرة .. أشار ناصر إلى عنقريب مفروش:
- نوم فى العنقريب داك يا العوض ... ما تمشى على الشلة ديك ، ديل ما بنومو لى الصباح !
لم تمضى دقائق فإذا بى أغط فى سبات عميق لم أستيقظ بعدها إلا بصوت ناصر ود المقدم وهو ينادى علينا :
- الحاج قوم الصلاة ... العوض قوم الصلاة ....
و قمنا نتجهز لنلبى نداء الصلاة، ثم تبعت ناصر إلى الجامع لأداء صلاة الفجر و بقى حاج دفع الله فى البيت ليصلى منفرداً، فالمرض و كبر السن كانا يحولان بين الشيخ وبين مهام كثيرة كان إعتاد أن يؤديها ... بعد أدائي لصلاة الفجر اتجهت نحو المنزل لوحدى ... فاليوم العملى بالنسبة لناصر يبدأ بعد صلاة الفجر مباشرة . فالرجل كان مجتهداً بالإضافة لإمتلاكه الفرن فقد كانت له تجارة و معاملات أخرى كثيرة فى السوق تتطلب منه المزيد من المثابرة و الإجتهاد .
- اها يالعوض أنا بمشي علي السوق .... عندى شغلانة كده عايز اقضيها بجى بعدين اوعى تكون مسافر الليلة !
- لا لا... بكرة إنشاء الله ... لورى الحلة بقوم الثلاثاء العصر !
- خير يا زول ... عليك الله الحاج ده ابقى بالو كان احتاج لى حاجة قضِّيها ليهو... الجماعه الهناك ديل ماعليهم تَكَل !
ثم ذهب ناصر لشأنه ... و عندما وصلت البيت و دخلت الغرفة وجدت الحاج نائماً و صوت شخيره يملأ ارجائها، يبدو أن الأدوية و العلاجات التى يتناولها الشيخ لها تأثيرات جانبية منوِّمة ... فالنظرية التى أعرفها أن كمية النوم تتناسب عكسياً مع العمر ... هذا الحاج المسكين ينوم كما ينام الطفل الرضيع .... و المؤمن مصاب ! ... فليس هناك أفضل و أثمن من العافية ! و كما يقول أهلى (العافية ستارة) و قد صدقوا فى ذلك لأنها تستر الكثير من العيوب ، و تجلب العديد من الفوائد و المحاسن أفضلها الرزق و استجلاب اللقمة الحلال و امتلاك القدرة على اداء حق الله و العبادات على الوجه المطلوب و الصحيح، و نسأل الله العافية و دوام العافية و الشكر على العافية و نسأله الغنى عن الناس ! ... جلست على العنقريب لبرهة من الزمن ثم استويت عليه راقداً .. و لم يمضى وقت طويل فإذا بى أنا الآخر أسبح غارقاً فى بحر النوم العميق .. مع أنّ الوالد كان يحذرنى و إخوتى الصغار من هذه النومة، وقد زعم أن النوم بعد صلاة الفجر ينفى الرزق و يجلب الفقر ... كان يجتهد فى منعنا تلك النومة لكننا كنا نخادعه و ليس فقط فى هذه المسألة بل كنا نخادعه حتى في أمر أداء الصلاة .. و (الجَهَل مصيبة) كما يقولون !.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق