15ـ تجهيزات للخروج
بعدها توجه نحو عنقريبي بعد أن خلع ( جلابيته ) وعلقها علي أحد أبواب الشبابيك المفتحة .. تذكرت أنني لم أصلي الظهر بعد فخرجت أتوضأ .. وخرج هجو إلي الفرن وبعد أدائي للصلاة منفرداً تذكرت أنه لابد لي من غسل قميصي مع ( الفنيلة ) الداخلية .. فقميصي الوحيد لونه يميل إلي الأبيض فعلامات الإتساخ بدت ظاهرة علي أكمامه وأطرافه خصوصاً المنطقة التي تحيط بالعنق من الخلف !. أما الفنيلة الداخلية فإنها لا تحتاج إلي كثير تفكير أو تمحيص فرائحة العرق المنبعثة منها مع ذلك الصيف الحار منفرة ولا يطيقها أحد, فقمت علي الفور بأخذ هاتين القطعتين من الملابس وبدأت بغسلهما بنفسي واستغرقت مني تلك المهمة الصعبة – التي لا يجيدها في الحقيقة غير النساء – بعض الوقت وبعد أن صارت نظيفة وخالية من الأوساخ والقذر قمت ( بشرِّها ) علي سلك كان مشدوداً بين الشباك الحديدى المحيط بأحد الشبابيك وبين أحد (المروق) البارزة من راكوبة الجيران الملاصقة للحائط الذي يفصل بيننا وبينهم!...وذلك حتي تجف بفعل حرارة الشمس الحارقة، وقبلها كنت قد قمت بتنظيف السلك بقطعة قماش نظيفة مبللة بالماء، فالسلك المنصوب كان من النوع الذى إستخدمه الإستعمار في ربط البلاد – لاسيما مشروع الجزيرة – بشبكة إتصالات تلفونية سلكية واسعة وممتدة إستخدم فيها الإنجليز صفوف من الأعمدة الخشبية – التي نصبت في أعلاها هذه الأسلاك – التي كانت تمتد لمسافات شاسعة تصل آلاف الكيلومترات حيث كانت التلفونات تعمل بنجاح وكفاءة عبر (الكبانيات) ، فصارت المعلومات تأتي أول بأول من الأطراق إلي المركز والعكس, فالذى يزعم أن الإستعمار لم يعمِّر كذّاب ومجحف, وأكبر شاهد علي إنجازات الإستعمار – والتي يشهد لها حتي المواطن البسيط الساذج – خزان سنار ومشروع الجزيرة, هذا المشروع الذى فشلت كل الحكومات في إدارته كما كان يديره الإستعمار, والذى كان يديره ببساطة وبكل كفاءة واقتدار!.
خرجت قليلاً عن الموضوع -عفواً أيها القارئ- بعد أن قمت بـ (شَرِّ) الملابس دخلت الغرفة واستلقيت أرضاً علي السباتة متعباً, فلم ألبث قليلاً أن تذكرت أمر المكواة فنظرت إلي ساعتي فإذا بالعصر قد تبقي له أقل من الساعة ونصف الساعة!. فأيقنت أنه لابد لهذه الملابس أن تجف بأسرع ما يمكن فالوقت ضيق والمهام التي أريد إنجازها ليست قليلة وتحتاج إلي زمن كبير نسبياً . إذن عليّ أن أقوم بتجفيف هذه الملابس يدوياً, بالفعل بدأت أولاً بالقميص, فأمسكت بكلتا يداى المنطقة ما بين الكُم ومنطقة العنق في كلا الجانبين وبدأت أنفضه بقوة وشدّة حتي صار رذاذ الماء يتطاير مصدراً جراء ذلك صوتاً أشبه بالتصفيق العالي!. كررت ذلك مراراً... دقائق معدودة فإذا بالقميص قد صار أشبه بالجاف ليس به سوى القليل من الرطوبة, فقمت بتعليقه علي السلك وتناولت الفنيلة التي كانت تقطر من كثرة تشبعها بالماء, وجعلت أفعل بها ما فعلته بالقميص إلا أنها كانت ثقيلة بعض الشيء بفعل الماء, وتحتاج إلي رفق أثناء النفض حتي لا تتمزق , فالصناعة كانت صينية والخامة قطنية . أتعبني كثيراً معالجة هذه الفنيلة حتي تجف!... وقد تبلل رأسي ووجهي بالماء بفعل الرزاز المتطاير منها بفعل النتر والنفض .. وبعد زمن طويل رضيت منها بدرجة معقولة من الجفاف حيث صار لا يخرج منها رزاز كثيراً عندما أقوم بنفضها, إلا أنها مازالت بعد رطبة لدرجة أنها لا تصلح أن تلبس بحالتها تلك . فقمت (بشرّها) مع القميص علي السلك ليكتمل جفافهما معاً تحت أشعة الشمس!.... ثم رجعت مرة أخرى للغرفة لأرتاح قليلاً علي السباتة إستعداداً للقيام بعملية الكي (الثقيلة) والتي لا أحبها لولا أنه لابد مما ليس منه بد!.
وبعد فترة زمنية تجاوزت العشرة دقائق, أخذت المكواة البلدية التي كانت ( مزقولة ) في أحد أركان الغرفة وذهبت بها إلي الفرن لأضع فيها بعض الجمر . فلمحني هجو و أنا أحمل المكواة :
- عاوز تكوى هدّامك ولا شنو يا العوض ؟ !
ولم يكن يريد أن يسمع مني إجابة فهو يدرك جيداً, أن سؤاله ذلك إعتباطي, فماذا عساه يريد أن يفعل من يحمل مكواة بلدية مصنوعة من الحديد الثقيل؟ فهل يا ترى يريد أن يكوى شعره أم يريد أن يكوى جزءً ما من جسده ليحقق إيمانه بحديث الشفاء المشهور ( الشفاء في ثلاث: آية من فرآن أو جرعة من عسل .. أو كية من نار)!, لهذا أردف سؤاله بصياح إلي أحد عمال الفرن :
- يا النيل ... النيل عليك الله تعال شيل المكوة دى املاها جمر عشان العوض اخوى ده عاوز يكوى !.
جاء النيل مسرعاً وأخذ مني المكواة وفي ثوانِِِ أتاني بها وهي معبأة تماماً بالجمر المحمر المتوهج الذى كان يصدر طقطقة شديدة وتتصاعد منه بعض الأدخنة والأبخرة الساخنة .. فطن هجو إلي هذه الطقطقة فقال للعامل موبخاً:
- يازول ده جمر شنو الجبتو ده... إنت دار تحرق للراجل هدّامو والا شنو؟ ... شيل المكوة دى وامشي عزل الجمر النجيض ما تكب فيها الحطب الني!.
أخذ العامل المكواة بجمرها ورجع بها ثانية إلي المكان الذى يوقد فيه الفرن, لكنه هذه المرة تأخر قليلاً قبل أن يعود ,حيث مكث عدة دقائق ثم عاد ثانية بالمكواة وهي معبأة بجمر محمر ساخن هادئ ليس به أى طقطقة ولا أدخنة متصاعدة، إبتسم هجو وهو يرمق الجمر وهو يبدو محمراً من خلال فتحات المكواة وهو يضيء ويخفت:
- أيّوا...! ده الجمر الصاح ....شوفو مولِّع كيفن يا العوض؟.... كنتاك هوستن بس!
فصاح عامل الفرن :
- قول ماشاء الله يا هجو اخوي ... ما تقتل علينا نار الفرن دي كمان ....! نحن ولّعناها بي تعب شديد!.
- بخاف انا قال ليك سحار .. حرّم سحار انت عامل عيونك المَكَتَّلات ديل !
لم أشأ أن أدخل معهم في مثل ذلك الجدل الفارغ فقد كنت متسرعا أسابق الزمن, أريد أن أكون جاهزاً تماماً للخروج قبل أن يرفع الآذان لصلاة العصر .... تناولت المكواة بهدوء وشكرت هجو والعامل, ورجعت الغرفة فهيأت السباتة وفرشت عليها بطانية ومن فوق البطانية افترشت ملاية, وسويتها جيدآ حتي صارت أرضية نظيفة ثابتة ومهيأة تماماً لكي الملابس التي أحضرتها للتو من السلك الذى كانت معلقة عليه, وكانت قد جفت تماماً. وبعد أن فرغت من عملية الكي والتي لم تكن بأقل صعوبة من سابقتها الغسيل, وضعت المكواة خارج الغرفة وهي مفتوحة, ثم أطفأت ما بها من جمر بعد أن صببت عليها الماء من الإبريق. ثم تناولت جردلاً وعبأته بالماء تماماً ودخلت الحمام ..أريد حماماً جيداً أزيل به ما علق في جسدي من أوساخ وأدران, وحتي ينتعش وتتجدد فيه الحيويه والنشاط الذين افتقدتهما منذ أن فارقت الحلة ! . بعد أن فرغت من الحمام شعرت بالراحة الكاملة!... راحة في الجسد وراحة في البال, فأنا الآن جاهز للخروج والسفر فقط أنتظر إشارة من السر بالخروج, وهو الآن نائم (نايم نومة عميقه فاتح فيها خشمو مترين وشَخَرِيهُو يجيب الضهبان ) هذه المرة استلقيت بهدوء واطمئنان علي السباتة فليس هناك ما يشغلني أو يعكر صفوى .. وبقيت هكذا انتظر أذان العصر, وقد شرعت الأحلام والأمنيات المكبلة في الإنطلاق والشرود سارحة في سراب الأماني الكاذبة, وغارقة في بحار أحلام اليقظة الخداعة, وبدأت روحي تتوه في عالم خيالي جميل قد تمثل حولي رغماً عني, وشعرت وكأني أحلق في سماء مرعدة قد تزينت بأنجم من شتي الألوان, وقد كستها سحب تمطر اللؤلؤ والمرجان . تملكني ذلك الطيف وصرت أسبح في دنيا ربما تعرفني ولاأعرفها, ثم فجأة بدأ ذلك العالم يرتبك ويرتجف كما لو أنك قذفت بحجر صغير علي بركة ماء هادئة, وبدأت الأطياف والصور الشاردة تتجمع وتتوقّّد في لون واحد, ثم أن ذلك اللون هو الآخر بدأ في التلاشي والإضمحلال حتي اختفي تماماً!... فاذا بصوت يناديني :
- العصر أذن يا العوض ولا لسع ؟
لقد استيقظ السر من تلقاء نفسه .. عجبت لذلك لأن مظهره الذى بدا لي وهو غارق في تلك النومة العميقة، أوحي لي بأنه سوف لن يستيقظ من تلقاء نفسه قبل آذان العصر، وظننت أنه سيتعبني في أمر إيقاظه من النوم, بالفعل كان ذلك أمراً غريباً بالنسبة لي، ربما أن السر ملئ من الداخل بالهموم والغموم وكما يقول المثل: (المهموم ما بنوم) نظرت إلي ساعتي :
- قرب آذان العصر باقي ليهو خمس دائق بس ..
- هلا هلا علي الجد ! قوم اجهز يالعوض
ثم قام من العنقريب وتناول الجردل من الفناء وتوجه به نحو البرميل المعبأ بالماء وبدأ يغرف منه ويصب في الجردل
- دار آخد لي برودة سريع كده يالعوض...
نهضت قائماً من السجادة لأتجهز, وأول ما فعلت تناولت جزمتي وبدأت بتلميعها بجدية وإهتمام, أثناء ذلك طلب مني عم دفع الله أن أعبئ له الابريق بالماء حتي يتجهز لصلاة العصر, وصوت الآذان كان وقتها يدوي عالياً:
- العوض ولدى عليك الله قوم أملا لي الابريق ده مويه النتوضا...
قمت وعبأت له الإبريق ثم شرعت في إكمال باقي تجهيزى, وعندما عاد السر من الحمام وجدني جاهز ( مويه ونور ) أنفش شعرى ( الخنفس ) بالخلال الخشبي الأنيق :
- العوض؟! انت ما جهزت تب ! عفيت منك الرِّقيِّق...!
- بعد ده أجهز انت يا السر أنا خلاص تاني ما عندى حاجة!
- ها زول ها ؟! انت قايل عندى شنو !جلابيه وبدرعها !.. طاقيه بختها فوق راسي... ومركوب بدرعو في كراعي !
ضحك عم دفع الله الذى كان يتوضأ وأعجب بحديث السر الساخر !
- السر ده زول بلدينا ساى ما عندو شغلة بالافرنجي
- عارف يا عمي دفع الله حرم من امتحنت الثانوى العالي تاني ما درعت لي بنطلون في جسمي ... حرم علا كان سروال التكه . ها زول ها اللباس البلدى ده زيّو مافي..!
ثم أن السر ملأ كوزاً كبيراً وبدأ يتوضأ وفجأه نبهني:
- العوض اتوضيت ؟! كان ما اتوضيت قوم اتوضا عشان نحن بنصلي العصر قدام عاوزين نمرق قبال العزابة ديل يجو من السوق يقومو يأخرونا ساى بعدين المواصلات تبقي علينا صعبة..!
كان ذلك تنبيهاً مهماً لأنني في الحقيقة نسيت أمر الوضوء, وكنت في طريقي لأن البس الجزمة قبل أن أتوضأ. لم تعجبني عشوائية السر في إستعماله الكوز الذى يستخدم لغرض الشراب في الوضوء, نعم الوضوء شعيرة دينية مقدسة, لكن مراعاة شعور الغير يجب أيضاً أن يراعي, هنالك إبريقين سوى الإبريق الخاص بعم دفع الله, فلا داعي إذن إلي التوضؤ بالكوز المخصص للشراب فهذه عملية مقرفة ومقززة لا يقبلها الكثيرون, إلا أنني مع ذلك لم أنتقده صراحة علي فعلته تلك : بل حتي لم ألمح له ولو بعبارة واحدة بأن وضوءه بالكوز فعلة خاطئة وعادة سيئة وغير حضارية .. فالإنسان أحياناً يتحرج في توجيه الإنتقادات إلي الغير, خصوصاً إذا كان الشخص الذى ستوجه إليه اللائمة مقرب إليك أو تربطك به علاقة أو مصلحة حساسة لا تحتمل التشويش والإستثارة ! أو أن هذا الأمر الذى سينتقد لأجله تافه, ولا يستحق أن تجرح به أحاسيس ومشاعر الآخرين ! وخلاصة الموضوع أنني لم أبث شيئاً من مشاعرى الداخلية الرافضة لسلوك صديقي الذى تربطني به قرابة!.... وكما يقولون ( كتمتها في حناني ) ثم خرجت لأتوضأ بإبريق كان (مزقولاً) بالفناء!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق