18ـ العودة إلى سوق الجمعة
الشارع الرئيسي الذي توجد به المواصلات بعيد بعض الشئ عن منزل موسي موظف الجوازات الخدوم طيب المعشر..! وأثناء مسيرنا نحو المحطة التي سوف نركب منها, أوضح لي السر أننا سنمضي سوياً إلي منزل خالته بالصحافة لإستجلاب مكرفونات الجامع .. لكنني لم أكن متحمساً لمرافقته إلي هناك, رغم أنني لم أذهب من قبل إلي تلك المنطقة من الخرطوم , فقد كرهت كثرة الصعود والهبوط من علي متن تلك المركبات العامة المزعجة التي تجلب الإرهاق والتعب .. كانت رغبتي أن أصل إلي سوق الجمعة بأسرع ما يمكن, حيث لوري عبد الفضيل وجماعة البصل من شُلّة الحلة :
- انت عارف يا السر.... أحسن تمشي براك تجيب المكرفونات .. الصحافة دي بعيدة وجماعتنا ديل ما مضمومين كان باعو بصَلُن بدري ما بنتظروا كتير ... أحسن انا أمشي عليهم من بدري اصبّرُن احدي ماتجي !
فكر السر ملياً واحتار لاقتراحي ذلك لكنه في النهاية استحسنه:
- كلامك عين العقل .. عبدالفضيل الشفقان ده كان البضاعة اتباعت ما بقدر انتظر تاني...! خلاص امشي عليهم يازول.... كان شفتهت قايمين بدري شوية قول لهم انتظروا السر... الزول ده جايب معاهو مكرفونات الجامع !
وعندما وصلنا إلي المحطة ركبنا سوياً حافلة صغيرة نحو الخرطوم ، وعندما وصلنا إلي السوق العربي حيث توقفت العربة معلنة نهاية مشوارها ، هبطنا منها ومن ثم افترقنا واتجه كل منا نحو المواصلات التي سوف تقله إلي الجهة التي يريدها!، كان الوقت يقارب الواحدة ظهراً حينما وصلت إلي سوق الجمعة ، لم أبتعد قليلاً عن الحافلة التي كانت تقلني, فإذا بي ألمح ابن عمي حماد ومعه الهزيل ود جار النبي وهما يساومان أحد باعة المراكيب, الذي كان يفترش بضاعته على الأرض، أظن أن أحدهما كان يرغب م في مركوب ( قَطِع جنينة) ويبدو لي أنهما لم يتتفقا معه في السعر, عندما تركاه مدبرين, واتجها نحو بائع آخر ثم جعلا يساومانه !... اتجهت نحوهما خلسة دونما أن يلمحاني, حتي صرت وراءهما تماماً ثم أنني رفعت يدي وبسطت أصابعها, وفجأةً أهويت بكفي علي ظهر حماد وضربته ضربة هزلية قوية, أصدرت صوتاً مسموعاً, ثم وليت مسرعاً في المشي بعيداً عنهما, لم امضي خطوات , فإذا بحماد يجبذ بأطراف حقيبتي بقوة من الخلف, وهو لا يكاد يميزني من الغضب :
- اقيف هنا يازول خبارك بِتْلَبِّع في الناس .. كان جنيت حرم هسع اوريك الجن الصح...!
وعندما التفت بوجهي نحوه, ألقى بقبضته الشرسة تلك بأطراف شنطتي , وانفجر ضاحكاً :
- العوض ؟!! .. حرّم علي شوية كان عكازي المضبب ده نزل فوق راسك...! انت لسع حركاتك ديك ما خليتا .. حرّم كبرت بي جهلك!
ضحكنا جميعاً لتلك الطرفة .. وبعد السلامات والتحايا خابراني وخابرتهما, وعلمت أن اللوري سيغادر بعد الظهر نحو الحلة بدلاً عن العصر كما أعلمنا عبد الفضيل, لأن محصول البصل وبسبب ندرته في السوق هذه المرة قد بيع مبكراً, وأنهم الآن يجمعون المال من بعض الزبائن الذين إعتادوا أن يستكملوا الثمن بعد تصريف البضاعة التي يدفعون في البدء نصف سعرها, وذلك بحكم أنه زبون أو بضمان أحد كبار السماسرة ممن يتعاملون مع حاج عبدالفضيل تاجر المحاصيل المعروف في الحلة ..!. بعد ذلك رافقتهما في السوق إلى أن ابتاعا - بعد جهد جهيد – مركوباً جميلاً و بسعر معقول, كان قد أوصى جارالنبى ابنه الهزيل بشرائه. وبعد المركوب (قطع الجنينة) لم يكن يريدان شراء المزيد من السوق. لذلك اتجهنا إالى حيث يقف اللورى و حيث يعسكر (عَرُّوب)الحلة - قطيعة تقطع العرُّوب!- و عندما وصلنا وجدنا الجميع يقف أو يجلس هناك: منهم من يتناول القهوة مع ست الشاى المجاورة, و البعض يحزم حاجياته التى ابتاعها أو استجلبها من السوق, والكل يبدو مستعد و متأهب للسفر الذى تأكد لي أنه وشيك, و لا يفصلنا عن بدء الرحلة سوى تغيب بعض الذين لم يقضوا حاجياتهم في السوق بعد . و أهمهم بالطبع حاج عبدالفضيل المموِّل الرئيسي للرحلة, فإذا لم يقبض كل مستحقاته من زبائنه المراوغين, سوف لن يحضر إلي اللوري ! سألني حاج التوم عن السر و استفسرنى عن سبب تأخره ,ولماذا لم نحضر سوياً؟, فأخبرته بأنه قادم ورائي ومعه مكرفونات الجامع، وأننى سبقته إلى هنا حتى أجعلهم ينتظروه إذا حدث أن بدأت السفرية قبل موعدها المضروب !. وعندما حانت صلاة الظهر قمنا وأديناها جماعة في سباتة افترشناها بجانب اللوري . وبعد السلام وأثناء أداءنا الباقيات الصالحات كنا جميعاً نتبسم ونضحك ونحن ننظر أمامنا نحو السر بجلبابه الأصفر و (سديريه) ألاسود وهو يحمل كرتونة كبيرة على ظهره وعلى أحد جانبيه تتأرجح حقيبة صغيرة معلقة على كتفه, وهو قادم نحونا بخطوات مسرعة !.
فقال الهزيل معلقاً :
- ياجماعة تاني ما فضل زول غير حاج عبدالفضيل ....!
- بعده ياالحلة جاك زول ... عبدالفضيل ماقريب هنا ! هسع بجي ما بتأخر !
وضع السر الكرتونة علي الأرض ووضع من فوقها حقيبته وجلس علي السباتة وأنفاسه تعلو وتهبط :
- السلام عليكم .. حرّم كنت متسرع خلاص ! دافرت في المواصلات وكابست فيها جنس مكابسة لامن خفت ينشلوني الحرامية!... خفت تفوتوني ....!
- حرم يا السر كان حاج عبدالفضيل سبقك بشوية كده ما كان بتلقانا...! الناس زهجت من قعدة السوق وغلبا الصبر تبْ !
- الحمدلله الوِصِلت بدري : حرّم العوض كلامو طلع صاح قالي الجماعة ديل ما عندهم صبر! ما معروف امكن يقوموا قبال العصر !.. واقيفو النسعلكم انتو عندكم كم كلمة؟... عبدالفضيل ذاتو لامن فتناكم قالنا بنقوم التلاتا العصر! .. الجدّّ شنو؟... ولا دي الشفقة الجابت جنا الكلبة أعمي....!
- يازول هوي مافي حاجة بتأخرنا للعصر.... البصل وبعناهو . الجماعة كلهم اتسوّقوا.... الناس هنا عاين لها كيفن!... نايمة في الوطا وحالتا بالبلا... وانت والعوض تلقاكم ضاربين المكيفات اللات ناس الخرطوم ديل... !
- عليك الله ياحماد سيبنا من كلامك الميّت ده.. الهزيل عليك الله ناولني الابريق ده النضوضا لسه ماصليت الظهر...
قعد السر على طرف السباتة وجعل يتوضأ , وأثناء ذلك استأذنه حماد والهزيل ليفتحا الكرتونة التي أتى بها, حتي ينظران إلي المكرفونات التي استجلبت للجامع, لكن السر رفض ذلك وانتهرهما :
- هوي ياحماد ويالهزيل الكرتونة دي انا بي تعب شديد رتبت فيها المكرفونات والجهاز وكَرَبْتَها بالحبال عاوزين تفرتقوها تاني ...!. وبعدين دي أمانة . حرّم الكرتونة دي ما بفتحا زول تاني إلا شيخ فضل المولي ذاتو... !
- ياخي انت مالك ياالسر عاوزين نشوفن بعيونا بس ...!. بعدين بنجيِّهه ليك الكرتونة ونكرِّبا ليك بالحبال في محلّها...!
- هوي .. هوي .. انقرعوا....! حرّم المكرفونات دي ما بتشوفوها إلا في الحلة...!
عندما فرغ من الوضوء أخذ الكرتونة ووضعها أمامه في السباتة, ثم جعل يصلي .. وضحك حماد والهزيل من تصرفه هذا, وتعجب البقية منه ماذا يضيره لو تركهم يلقون نظرة إلي الذي داخل الكرتونة . ولماذا يصل به الحرص علي ما بداخل الكرتونة إلي القدر الذي يجعله يضعها أمامه في الصلاة!. بالفعل هذا سلوك يثير الشكوك, ويجعل الشبهات تحوم حوله, بل حتى الذي يثق به إذا رأي منه مثل ذلك التصرف الغريب حتماً سيشك فيه ويأخذه الفضول الشديد إلي درجة التجسس والتعقب, حتي يعرف ماذا وراء تلك الكرتونة الكبيرة التي يحرص صاحبها علي إخفاء ما بداخلها حتي إلي أهله وأبناء حلته, مع أنه يزعم أن ما بداخلها ليس سوي مكرفونات وحاجيات تخص الجامع !.
لكن الشئ الوحيد كان يقلق الحضور المتجمعين حول اللوري ويشغلهم, ليس السر وليس ما يخبئه داخل الكرتونة, فأغلبهم لا يعلم شئ عن موضوع المكرفونات التي أرسلها المغتربون من أبناء القرية, لذلك لمن تكن لديهم خلفية (شماراتية) قوية تحرك فضولهم نحو الكرتونة, لدرجة تزعج السر وتهدده بكشف ما يخفيه داخل الكرتونة باعتباره حق يخص جميع مواطني القرية !. لكن الكل هنا متلهف لعودة عبدالفضيل حتي يتحرك بنا اللوري, فقد كان هو الغائب الوحيد والمهم -وهو صاحب اللوري- فمعظم الشحنة من جوالات البصل التي تم استجلابها هنا للعاصمة كانت تخصه, لذلك فمكانته كبيرة لدي الجميع باعتباره من أثرياء الحلة. وهو متفرغ تماماً للإتجار في المحاصيل وتنظيم الرحلات التجارية إلي الخرطوم وغرب السودان بلوريه (الهوستن) يقوده جِدُّو الفلاتي, الذي خدم معه سنين طويلة كمساري ومساعدي, فقام بترقيته من مساعدي إلي سوّاق يقود اللوري! وذلك بعد ما رأي فيه الكفاءة والأهلية التي تؤهله لهذه المهنة الدقيقة والصعبة إلا لذوي الخبرة والتمرس في هذا المجال !.
- ياجماعة واحد يمشي علي الزول ده جوه السوق يشوف الحاصل عليهو شنو ؟
- لا لا هوي مافي زول يتحرك بعيد من اللوري ده ..... !هسع واحد يخش السوق بي جاي وعبد الفضيل يعقبو بي جاي.... ونبقي تاني منتظرين في زولنا الكان معانا....!
وبينما هم يتجادلون في مسألة إرسال أحدهم إلي المكان الذي يتجمع فيه السماسرة في سوق البصل, لينظر لماذا هذا التأخير لحاج عبد الفضيل, فإذا به شخصياً يبرز من علي البعد قادماً نحونا وهو يحمل كيساً كبيراً في إحدي يديه. وعندما لمحوه بدأ الجميع يتأهب: فالذين كانوا يجلسون علي السباته (يتونسون) نهضوا قائمين وطووا السباتة ثم رموا بها أعلي اللوري، والذين يجلسون بجانب ست الشاي قاموا من بنابرهم وحاسبوها متوجهين نحو اللوري.والسر أيضاً رفع كرتونته أعلاه بمساعدتي أنا والهزيل ، وحينما وصل عبدالفضيل وجد الجميع قد صعد اللوري مستعدين تماماً لبدء الرحلة : فنظر اليهم وهو يضحك وقبل أن يصعد خاطبهم :
- أها ياجماعة ياكم كلكم ولا فيكم زولاً مافي.....!
- يانا كلنا مافينا زولاً واحد مافي !....
- ياجماعة اتأكدوا كويس الشفقه ما كويسة ما دايرين نفوت لنا زول ساي.... ناس الحلة بعدين يلومونا.... دحين السر والعوض جو ولا ما جو ؟
- جو قبيل ! من بدري ياهم ديلاك معنقلين فوق.....!
- لا لا .... خير تب كان كده ما ظِن فيكم زول غايب!
بعد ذلك صعد إلي الجانب الأيمن من كابينة اللوري وخاطب جدو الفلاتي قائلاً :
- يلا يا جدُّو قول بسم الله !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق